موقف الانتفاضات العربية من الدين والدولة والمرأة والجنس

01-12-2011

موقف الانتفاضات العربية من الدين والدولة والمرأة والجنس

شكل اندلاع الحراك الشعبي العربي بدءاً من الانتفاضة التونسية، مسار نقاشات متراكمة، بحيث احتل المعطى السياسي المحرّك الأول لأي تحليل يفكك معجزة العرب في مطلع القرن الحادي والعشرين. وإذا كان الاستبداد الشرقي، أحد أبرز العوامل التي أسهمت في تفجر «الربيع العربي»، على اعتبار أن الأنظمة الجمهورية/ الوراثية ومعها الملكية أدت الى رفد المؤشرات البنيوية بمزيد من البذور الكامنة، التي ولدت الانتفاضات الراهنة، لكنّ ثمة بُعداً أساسياً لم تلحظه غالبية التحليلات، ويتمثل في كيفية تطور الوعي الجمعي.
تطور الوعي الجمعي يتطلب بالدرجة الأولى تبدل رؤية الجماعات تجاه الدين والآخر والسلطة والمرأة؛ ولعل البنى البطركية التي استفاض في دراستها المفكر الفلسطيني الراحل هشام شرابي، ما زالت تسيطر على مفاصل المجتمعات العربية، وهذا يؤشر على أن الانتفاضات الحالية لم ترق بعد، الى مستوى الثورات البنيوية الحقيقية، التي تتطلب بالدرجة الأولى النهوض بالأفراد والجماعات وتغيير نظرتهما للمحرّكات التي ينهض عليها وعيها، ما يعني أيضاً التصالح مع الثقافة العالِمة في شتى المجالات، لا سيما المجال الديني والمساءلة السياسية. ورغم أن الادراك السياسي آخذ في التراكم وإن ببطء شديد تحديداً في الأنموذج الثوري المصري، لكن ماذا عن تطور وعي الجماعات بالنسبة للدين؟
الجيل الشبابي العربي الذي يعتبر الوقود الأساسي للانتفاضات ينقسم الى اتجاهين: اتجاه نسبي تطورت نظرته الى الدين مع الحفاظ على منسوب معين من التدين، واتجاه آخر وقع تحت إغراءات التيارات السلفية وأطياف الإسلام المعدّل، علماً بأننا لا نملك أرقاماً دقيقة أو إحصاءات يمكن أن تكشف لنا عن معاني التدين ومفهوم الدين بالنسبة للشباب العربي، وطبعاً استطلاعات الرأي العلمية والدقيقة، لا تحتل حيزاً من اهتمام مراكز الدراسات والبحوث المعنية في دراسة الظاهرة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، فالجزء الأكبر منها يتجه الى معاينة ما هو سياسي عام، وما هو مجتمعي عام، مع ما يرافق ذلك من عشوائية في اختيار العينات، ولا نهدف بهذه الفرضية الأولية الى التعميم، لكن يحق لنا أن نسأل عن حضور السوسيولوجيا والأنتروبولوجيا كأدوات بحثية تكشف بدقة عن خصائص أي قضية مدروسة، تحديداً الظاهرة الدينية التي هي بمثابة المعطى الأهم في تحولات الوعي الجمعي وإمكان تكيفه مع متطلبات الحداثة.
المجتمعات العربية ترزخ تحت مؤثرات البطركية، وهذه المؤثرات تمتد من الفرد الى الأسرة الى الدولة فالفضاء المجتمعي الأوسع، وصحيح أن مشاركة المرأة في الانتفاضات العربية تحديداً في تونس ومصر واليمن بدت واضحة للعيان، إلاّ أن الغلبة الديموغرافية يحتلها الرجال، وهذا يعود لإقصاء النساء عن الحياة السياسية. والملاحظة الثانية التي يكشف عنها الحراك الشعبي، الحضور اللافت للمحجبات، ما يؤشر الى الخلاصة التالية، أن المرأة بحجابها تتحدى في اللاوعي الأنثوي ثنائية الدين والسلطان السياسي. لن ندخل في تفاصيل أكثر حول هذه الظاهرة القديمة الجديدة، لأن معارك تحرير المرأة ليست نتاج اللحظات التاريخية الراهنة، بل تعود الى معارك السفور التي خاضتها الكثيرات من النساء العربيات وتأتي في الصدارة نظيرة زين الدين صاحبة الأطروحة الشهيرة «السفور والحجاب» وهي أول امرأة عربية قارعت النص الديني، وبعدها بدأ مخاض الاتجاه النسوي الذي وصل الى ذروته مع القراءات الحداثوية التي خاضتها النساء العربيات، ومن بينهن فاطمة المرنيسي التي استعملت في منهجها علم التجريح والتعديل أي علم الرجال.
إشكالية تطور الوعي الجمعي في الانتفاضات العربية تستدعي مقاربة من نوع آخر، لا تتمفصل فقط حول الانتفاضة على الاستبداد السياسي أو السلطوي، فهذا المؤشر أحد تجليات هذا التطور، كما أنه لا يشكل المدماك الوحيد، لأن الثورة الفعلية والانتقالية، لا بد لها أن تصل الى البنى الدينية والمجتمعية والثقافية الأعمق، وبالتالي يمكننا أن نطرح جملة من التساؤلات: كيف ينظر الشباب العربي الى الدين والدولة والمرأة والجنس؟ وما هو موقفهم من فصل السياسي عن الديني؟ وكيف يفسرون الهيمنة البطركية على البناء المجتمعي؟ وهل يعتبرون المرأة شريكاً في القرار أم هي عبارة عن وقود احتياطي؟ وماذا عن رؤيتهم للآخر الديني أو الإثني؟ طبعاً لا نملك حق الاجابة عن هذه التساؤلات لأنها تحتاج الى دراسات علمية جادة وحيادية تبتعد عن التعميم وهنا لا بد للمراكز البحثية العربية الاهتمام بها وليس الاكتفاء بالاحاطة بما هو سياسي.
الوعي الجمعي لا يمكن أن يتفجر في لحظة زمنية محددة أي فجأة؛ فهو يحتاج الى تراكم تاريخي كثيف ومتعاقب، يبدأ مع الدين، لأن أم المعارك لا بد أن تسير على طريق الإصلاح الديني الذي يوفر المصالحة الكبرى بين الإسلام والحداثة، وعليه يمكن استعادة الإشكالية المزمنة: لماذا فشلت تجارب الاصلاح الديني في العالم العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر أو حتى حين أرسى المعتزلة قواعد العقلانية الإسلامية؟ الجواب البديهي يفيد بأن الجماعات في هذه المراحل التاريخية الكاشفة لم تكن جاهزة بعد لتقبل التجديد الديني، لذا أُجهضت هذه التجارب الجنينية ولم تجد حيزاً لها على صعيد البنى الفوقية. فهل يمكن القول إن هذه الجماعات بعد مرور قرن ونيف ستكرر التجربة نفسها؟ فلسفة تطور الوعي الجمعي في الانتفاضات العربية تجبرنا على الخروج بالنتائج الأولية التالية: ولادة عصر الجماهير اللاأيديولوجية؛ تحرك الجماعات التي قادت الحراك الشعبي عبر غياب مركزية القيادة مقارنة بالتجارب السابقة التي حركها القائد؛ بروز الفرد الرقمي الذي أسعفته تكنولوجيا المعلومات وطورت وعيه نسبيا؛ سيطرة مفاهيم حقوق الانسان على الشعارات المرفوعة في الميادين والغياب الكلي للشعارات السياسية.
مقابل هذه الخلاصات كيف يمكن تفسير ما أفضت اليه انتخابات المجلس التأسيسي في تونس وهل حركة الاخوان المسلمين في مصر سيكون لها حصة الأسد في مجلس الشعب؟ بصرف النظر عن الصراع بين العسكريين والمدنيين في التجربتين ومآلاته المنتظرة، وبصرف النظر عن الأجندة السياسية التي رفعتها حركة النهضة المتأثرة الى حد كبير بالاسلام الأوروبي، يمكن القول إن الإسلام المعتدل أمام مواجهة كبرى، إما الأخذ بالتحديث، وإما تكرار تجارب الحكم العسكري الذي صادر قرار الناس. وربما قد تسعفنا نظرية صادق جلال العظم في تشريح إشكالية الإسلام والحداثة، إذ دعا الى تأسيس «الإسلام المهجري» وخلص إلى أنه إذا كان الأدب العربي المهجري قد أحدث ثورة في موطنه الأصلي، فإنه من الممكن التعويل على تطور «فقه إسلامي مهجري حديث» وعلى هذا الإساس يمكن فهم ما نقصده بالإسلام الأوروبي.
تطور الوعي الجمعي لا يرتبط بما يصنعه الجمهور العربي في الساحات لجهة «الثورة النصفية» على الاستبداد السياسي فحسب؛ المعركة الأهم تتمثل في الثورة على الدين وعلى البنية البطركية وعلى إرث الحريم الثقافي والمجتمعي الذي عرقل تقدم المرأة، وعلى نبذ الآخر وإقصائه عبر تكريس التعايش مع التعدد الديني والإثني، أي النظر الى الآخر كذات وليس التعامل معه من منطلق الأنا القاتل.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...