لينكون في مئويته الثانية : شيء من الحقيقة

31-03-2009

لينكون في مئويته الثانية : شيء من الحقيقة

ليست القضية في تلميع صورة الرجل أو على العكس تشويهها , بل في استعادة شيئا من الحقيقة التاريخية من أسر الأسطورة التي ارتبطت به , لصالح القوى السائدة , كان فوكو يربط الحقيقة بالسلطة , بل إن السلطة عنده هي إنتاج الحقيقة , هنا نحاول إعادة شيئا من الاعتبار للحقيقة التاريخية , لكن هذه الحقيقة في النهاية ليست محايدة , إنها في حيادها عن السلطة تجد نفسها على الفور إلى جانب ضحاياها , في قصة لينكون الكثير من الأساطير , فالتاريخ قدر له أن يصبح مثالا فعليا و أسطوريا في نفس الوقت لواقع السياسة و المال في الولايات المتحدة , يمثل لينكون إلى حد بعيد حقيقة ذلك الوعد البرجوازي , وعد الطبقة الثالثة , بتحرير "الإنسان" , حيث يتسامى الإنسان بالفعل نتيجة لهذا التسلسل التاريخي لكن تتسامى معه أيضا منظومة التدجين الرسمية و شبه الرسمية , تترقى معه من سوط صاحب العبيد إلى زرع ذلك السوط داخل تفكير الضحايا و تمويهه و تحويله من مصدر للألم و للمعاناة إلى حالة محايدة مزعومة أو حتى مولدة للسعادة الوهمية , من هنا تأتي أهمية أسطورة لينكون التي تصبح بالتالي جزءا من منظومة التدجين و من القصة الرسمية عن تحرير الإنسان , بين دوره "كمحرر للعبيد" إلى انتصاره في الحرب الأهلية الوحيدة في التاريخ الأمريكي , هذا وحده كاف ليضمن له حضور طاغ حتى بعد 200 سنة من ولادته ( ولد لينكون في 19 فبراير شباط 1809 ) , في الحقيقة يمثل لينكون شكلا سائدا من الشخصيات ذات الحضور الطاغي في التاريخ التي تجد نفسها و هي تلهث وراء الأحداث أبعد مما كانت تريد , أبعد بشكل خطير أحيانا , لكنه ضروري , هكذا نجد "أبطالا بالصدفة أو حتى رغما عن أنفهم" , هكذا كان لينكون الذي لم يكن يحلم يوما بتحرير العبيد , و قد فعل هو نفسه كل ما بوسعه ليؤكد هذا على الدوام , كانت القضية المطروحة يومها أصغر بكثير و هي تشريع أو تحريم العبودية في الأراضي الشاسعة الجنوبية الجديدة التي كسبتها الولايات المتحدة بعد هزيمتها للمكسيك في تكساس و كاليفورنيا , كان لينكون يعتبر شماليا معتدلا هنا , و انتخب رئيسا على هذا الأساس في انتخابات 1860 , و كان قد أصبح رئيسا رغم حصوله على 40 % فقط من أصوات الناخبين لأن بقية الأصوات توزعت بين مرشحين منافسين , و عندما بدأت الولايات الجنوبية تنفصل بعد انتخابه كان عليه أن يجد مبررا قانونيا أو دستوريا لإعادتها بالقوة إلى الولايات المتحدة , التي تشكلت بالاتحاد الطوعي بين الولايات الأمريكية , كان عليه أن يعود إلى دستور 1776 الذي توقف العمل به عام 1789 و الذي تحدث عن "الوحدة الدائمة" , فاعتبر أن دستور 1789 هو تطوير لما سبقه , أي لدستور 1776 , و بالتالي ففكرة الوحدة الدائمة ما زالت قائمة , في البداية كان لينكون ميالا للتصالح مع الولايات الجنوبية المتمردة , حتى أنه عرض تعديل الدستور لينص على إلغاء تحريم العبودية في تلك الولايات "إلى الأبد" , دون أن يتنازل عن تحريم العبودية في الولايات الجنوبية الجديدة , لكن الولايات الجنوبية شكلت كونفيدرالية جديدة مؤكدة انفصالها عن الشمال , لكن رأي لينكون فيما يخص إعادة الجنوب بالقوة إلى الاتحاد و تفسيره للدستور لم يكن يتمتع بشعبية كبيرة حتى في حزبه الجمهوري و كان عليه انتظار هجوم الجنوبيين على قلعة سمتر ليبدأ بتحشيد القوات لمهمة إخضاع الجنوب , اختار لينكون أولا الجنرال ماكلينن قائدا عاما لقواته و توقع تحقيق انتصار سريع لتفوق الشمال العددي و الاقتصادي لكن الجنوبيين تمكنوا من اختراق الشمال و ألحقوا خسائر مهمة بقوات الشمال فاستبدله بالجنرال غرانت الذي بدأ يطبق سياسة الأرض المحروقة في الجنوب , ما سمي يومها الحرب الشاملة total war  , و في مواقفه أثناء الحرب كان من الواضح لا مبالاته بالضحايا أو بحياة المدنيين أو سلامة المرافق المدنية , و في أيلول سبتمبر 1863 أصدر لينكون القرار الذي لم يفكر به حتى قبل وقت قصير و هو قرار تحرير العبيد على أمل أن يثير العبيد في الجنوب ضد أسيادهم و يضعف اقتصاد خصومه بالتالي , مستثنيا الولايات الجنوبية الأربعة التي بقيت في الاتحاد كالعادة من تحرير عبيدهم , لكن هذا القرار أدى لتصاعد المعارضة ضده في الشمال , إلى جانب الخسائر البشرية و الاقتصادية الباهظة , حيث ساد الانطباع أن الشماليين يقاتلون من أجل الزنوج و ليس من أجل توحيد الدولة , و هنا مارس لينكون , كأي سلطة أخرى , قمعا هائلا ضد كل معارضيه , فكمم الأفواه و أقفل الصحف و سجن الآلاف , حتى أنه في أحد المرات أمر بسجن أعضاء المجلس التشريعي لولاية ميريلاند عندما تناهى إليه أنهم قد يصوتون لصالح الانفصال عن الاتحاد , في 1865 بعد سقوط 600 ألف قتيل و إحراق مدن الجنوب انتهت الحرب الأهلية , لم يتردد لينكون لحظة في التأكيد أنه لم يكن يريد المساواة بين العبيد و أسيادهم و إنما , في أفضل الأحوال , إلغاء الرق من بعض ولايات الجنوب , كانت ضرورة هذا الإلغاء للصناعة الشمالية واضحة تماما , لكن سكان البلاد الأصليين لا يستحقون حتى أن يعملوا كحثالة بروليتاريا في مصانع الشمال النامية , كان يجب سحقهم فقط , الاستيلاء على أراضيهم و إبادة قطعان ثيرانهم البرية , يختلف الهنود الحمر عن السود جدا بهذا المعنى , لم يكن من الممكن لممثل برجوازية الشمال الصناعي أن يبدي أي تعاطف مع قضيتهم , كان عليهم أن يختفوا و حسب , لذلك عندما قامت قبيلة السو الهندية في مينيسوتا بالانتفاض كان رد واشنطن قاسيا , بعد إخماد الثورة بالقوة جرى إعدام 300 من قادتها بأمر مباشر من لينكون , يستحق هذا العمل أن يكون خاتمة لمآثر هذا الرجل , الأب الثاني للولايات المتحدة كما يسمى في التاريخ الأمريكي الرسمي.

 

مازن كم الماز

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...