فيروز على كتف قاسيون

01-02-2008

فيروز على كتف قاسيون

عند الساعة الثامنة من مساء الاثنين، ارتسمت ابتسامة على ثغر قاسيون. ليست الابتسامة الأولى وربما لن تكون الأخيرة. فهو الشاهد الوحيد على ما يجري في دمشق. يطلّ عليها منذ زمن طويل. يتفرج على فرحها وحزنها ويصمت. لكنه قد يبتسم أحياناً. وابتسامته تكون غريبة بعض الشيء.
قاسيون يبعد الضباب وغيوم الشام الواطئة ويتأمل المدعوين وهم يدلفون إلى «دار الأوبرا» ليلتقوا بالسيدة فيروز. قاسيون لم يكن مدعواً. ومحمد الماغوط، إن تعب يرمي برأسه على كتف قاسيون لم يكن مدعواً. وأنطون المقدسي، قاوم أحلامه وعاش في دمشق ودفن فيها لم يكن مدعواً. وسعد الله ونوس، كتب كلمة يوم المسرح العالمي وألقاها على خشبة مسرح الحمراء في قلب دمشق لم يكن هو أيضاً مدعواً. «أهل الشآم» الذين التقوا بالست فيروز في الستينيات على أرض المعرض لم يكونوا مدعوين. أهل الشام، يصحون على صوت الملكة وهي تغني من وراء جدران البيوت. يصغون إليها ويحتسون قهوتهم الصباحية ويشردون وقد ترتسم على أفواههم ابتسامة غريبة.
جاءت فيروز إلى دمشق وأحيت الحفلة الأولى على مسرح «دار الأوبرا» رغم كل النداءات. كانت كصبية في العشرين من عمرها تتبختر على الخشبة، تغنج بمشيتها، تتمرد على الوالي النائم دائماً. تصرّ وتلحّ وترفض الصمت لأن «الحكي لم يخلق إلا لنحكي». هذا ما قالته فيروز. والصالة المخنوقة بالناس كانت تهتز من إيقاع التصفيق والصراخ. ما ان تلفظ فيروز جملة من جملها الثائرة عن فساد الوالي والدولة المصنوعة من خشب والختم المخصص لثلاث معاملات كل شهر حتى تعلو حدة التصفير والتصفيق. وأهل الشام لم يكونوا مدعوين. ولا مثقفوها المتمردون كفيروز. ولا قاسيون.
أهل الشآم الذين تجمعوا لساعات طويلة على باب «درا الأوبرا»، يلفهم الهواء الرطب والبارد طال انتظارهم دون جدوى. فالسيارات الفارهة وصلت قبلهم واستطاعت التسلل إلى البهو الفسيح وحصلت على بطاقات لفئة أخرى من أهل الشام. فئة لم تغادر بيتها ولم تنتظر في الخارج ولم تعصر ميزانيتها لتلتقي بالملكة. فقط استغنت عن سياراتها وسائقيها لبعض الوقت. وسائقو تلك السيارات الذين كلفوا بإحضار البطاقات لم يكونوا مدعوين أيضاً. لكنهم ابتسموا ربما عندما لمحوا اسم السيدة فيروز مطبوعاً في أعلى البطاقة. البطاقة التي رافقتهم للحظات قصيرة تفصل دار الأوبرا عن المالكي والمزة وأبو رمانة والأحياء الراقية الأخرى.
الشام التي سميت «عاصمة للثقافة العربية»، هل كانت مدعوة؟ الشام ليست مجرد ماضٍ يعبق بروائح الياسمين المتدلي على الجدران والهال المتبخر من فناجين القهوة وبردى يطفح بشعر نزار قباني وبصوت فيروز. هي أيضاً حاضر. وغادة السمان التي قرئت مقاطع من روايتها «فسيفساء دمشقية» خلال الافتتاح الرسمي تركت دمشق منذ زمن طويل. الرائحة لا تصنع وطناً. ومحمود درويش الذي كتب عن دمشق وقرئت قصيدته في الاحتفالية افتقدته دمشق. والحنين إلى الماضي، لا يغني الحاضر.
كثيرون انتظروا مساء الاثنين. ساروا في الشوارع المفضية إلى ساحة الأمويين حيث دار الأوبرا، ليلتقوا بالملكة. كثيرون تجمعوا في الساحة الكبيرة رغم البرد القاسي، أعينهم معلقة إلى قاسيون. وقاسيون يتعرّق، يتندّى، يتلوّن، يختبئ وراء الضباب، يسند الملكة على كتفه ويبتسم...

ديمة ونوس

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...