غسان الرفاعي: فواجع متأرجحة بين العجز والفشل

25-01-2010

غسان الرفاعي: فواجع متأرجحة بين العجز والفشل

ـ 1 ـ قد يداهمنا الخواء النفسي، بعض الأحيان، فتفقد الأشياء مضامينها الحقيقية، وتصبح كالهياكل العظمية، ويتفشى فينا، حينا آخر، الملل الكثيف، فيتركنا فريسة عطالة ذهنية، تفصلنا عن أنفسنا والعالم الخارجي معا، وقد تزحف علينا اللامبالاة، فتتساوى لدينا قيم الخير والشر، وتنهدم الجدران بين الحق والباطل. عزتني، في بداية العام الجديد، مشاعر نازفة، مغلية ومثلجة معا، بعد أن تساقطت على رأسي، مشاهد مروعة من الفواجع الكونية التي فتكت بمئات الألوف من الآدميين، وعشرات الألوف من المنازل في هاييتي، ومشاهد أكثر هولاً عن الفواجع الإنسانية في أفغانستان وباكستان، والعراق، وفلسطين، ونيجيريا، ومما زاد في فداحة مشاعري، وتصاعد غضبي، العجز الدولي عن الإسعاف والإنقاذ، والإفلاس الإقليمي عن المعالجة والتسوية، وقد سكنتني استشهادات كنت قد سجلتها في »يومياتي النزقة« فوجدت العزاء في استعادتها.

‏ ـ 2 ـ ‏

يحضرني هذا المشهد في رواية »هنري ميللر« »الربيع الأسود«: ‏

حينما دخلت على مدير مكتب البريد، كنت واثقا من أنني سأرتكب حماقة، قد أندم عليها كل حياتي، لقد بقيت مسهّد الجفن طوال الليل، بسبب صرصار لم ينقطع عن الضجيج، ما سبب لي الغضب والخوف والقرف. ‏

قلت لمدير المكتب: »هذه فرصتي السانحة!« ‏

نظر إليّ بدهشة وقال مذعوراً: »فرصتك الأخيرة!«. ‏

وسمرت عيني في عينيه، وصرخت به: »نعم، فرصتي السانحة لكي أهجم عليك، وأشبعك ضربا ولكماً، أتدري ما الذي يزعجني فيك؟ انك وراء مكتبك دوما، وانك تعمل بنشاط دوما، وانك تتجاهلني دوما!«. ‏

ما يثير في هذا المشهد هو عبثيته: ها هو رجل رزين في الأربعين من عمره، يقدم على التحرش بمدير البريد، القريب من منزله دون سبب، لقد حرمه صرصار من النوم، فتضايق وخاف، ولم يجد مخرجا للتخلص من توتره النفسي إلا باقتراف عدوان على رجل »روتيني« يمارس عمله بإخلاص ونشاط. وقد تلاحقت الكوارث على بطل رواية »الربيع الأسود« بعد حادثة التحرش، إلى أن ينتهي به الأمر إلى الانتحار، وقبل موته ترك لنا ما يشبه الوصية: ‏

»منذ أن تفتحت على الدنيا، والصراصير تمنعني من النوم، صراصير من كل الأنواع والمقاسات والأحجام. كان لا بد من التحرش بإنسان للتحرر منها، والتنعم بقسط وافر من النوم. الصراصير هي الحزن في عيون الأطفال، الخناجر في أيدي الجلادين، المال الفاسق بأيدي المرابين، اللصوص الذين يعينون في مناصب الدولة العليا، مستنقعات الدم الممزوجة بالدم، ناطحات السحاب التي لا بد من سقوطها وتناثر طوابقها. ولا بد من التخلص من هذه الصراصير، ولكن كيف؟ لا بد من ثقب الروتين الطاغي، والتحرش بإنسان يجسد هذا الروتين!«. ‏

‏ ـ 3 ـ ‏

ويحضرني مشهد آخر من رواية »فيفا زاباتا« للكاتب الأمريكي »جون شتيانيك« كتبها يوم كانت الفاظه سياطا تجلد الظالمين، والفاسقين. ‏

يدخل زبانية ديكتاتور مغتصب قرية هادئة مسالمة، ويبدؤون بتفتيش البيوت، وسرقة الغلال، وإطلاق الرصاص إرهابا، وفجأة سقط طفل على الأرض، مضرجاً بدمائه، نتيجة إصابته برصاصة طائشة، فيتخبط بعض الوقت، وكأنه دجاجة مذبوحة، ثم ينقلب إلى قفاه، ويتجمد ولمّا تزل ابتسامة وديعة على شفتيه. ‏

ويتجمع عدد كبير من السكان حول جثة الطفل، والغضب ينفر من وجوههم، والدهشة تعقد ألسنتهم، يريدون أن يفعلوا شيئاً، أي شيء، ولكنهم لا يعرفون. ‏

وفجأة يبرز شيخ بين الصفوف، ويرفع قبضته ويقول: ‏

»كان ينبغي أن نعرف أنكم قتلة، كان ينبغي أن نعرف أننا مرشحون جميعا لأن نكون من ضحاياكم، كان ينبغي أن نشهر السلاح ضدكم، وأن نقتلكم، لا أن نبقى متفرجين، مشاهدين!«. ‏

وتنطلق رصاصة من مكان ما، ويسقط الشيخ مضرجاً بدمائه، وتبدأ المجزرة بكل همجيتها بين جناة أعماهم الحقد الأهوج، سكان قرية أصبحت لهم قضية وطنية كبرى. ‏

ـ 4 ـ ‏

يشهد عصرنا مصرع رابطتين كانتا توفران للإنسان الأمان والانتماء والدفء: رابطة »الأخوة في الإيمان« ورابطة »الرفاقية في النضال«، وطفت على السطح الانتماءات المزورة القائمة على الذعر والمصلحة والتراص القطيعي، وأصبح الرد الوحيد على تفشي الصقيع الاجتماعي في كل مكان هو الرجوع إلى رابطة الصداقة البدائية، بكل عفويتها وسذاجتها ونزاهتها، وما يدعو إلى السخرية أن الصداقة التي رفضت، في بداية القرن العشرين على أساس انها »عاطفة مترفة ارستقراطية« لا ضرورة لها تعود اليوم بزخم مدهش على أساس أنها (كل ما تبقى لنا) بعد انهيار كل شيء، أليس من المستغرب أن تدعو مجلة رصينة كمجلة »ديالوج« ـ جادة لا هازلة ـ إلى تطبيق المرسوم الثوري الذي أصدره »سان جوست« في بداية الثورة الفرنسية، ويتضمن أمرين: أولهما: الإقرار بأن التفرد هو موقف معادٍ للشعب، وانه يجب على كل رجل في الحادي والعشرين أن يكشف أمام الشعب عن أصدقائه، وأن يجدد هذا الكشف كل عام، تحت طائلة العقوبة، وثانيهما: انه ينبغي على كل من يتخلى عن صديق من أصدقائه أن يقدم تفسيراً أمام الشعب، وسيعاقب كل من يستنكف بقسوة، ولكن المرسوم قد سقط بعد أن تدحرج رأس »سان جوست« تحت المقصلة، على أن هناك من يطالب بإحيائه اليوم، بعد كل الانهدامات والفواجع التي منينا بها مع الإخوة والرفاق. ‏

ـ 5 ـ ‏

كان نيتشه، وهو فيلسوف أميل إلى الرجعية، وان كان مولعاً بالتفاصح التقدمي يقول: »الإنسان هو الحيوان الوحيد القادر على ان يتعهد، وأن يقطع على نفسه وعداً«، ولكن الكلمات التي ينزلها بعض المسؤولين العرب إلى البورصة هي »شيكات بلا رصيد«، والعهود التي يسوقونها إلى المقصلة هي كرات زجاجية تتدحرج في الفراغ. لقد ثبت أنهم يستخدمون الكلمات للتملص لا للالتزام، للإيقاع لا للحوار، والعلاقة بين المتحدث والمتحدث معه هي علاقة الفريسة بالصياد، من ينجح في الخديعة هو المنتصر، ومن تنطلي عليه الخديعة هو الخاسر. ‏

إن الإنسان العربي الذي يتهم عادة بأنه يُفرط في الكلام أكثر من اللازم، ويهدر مخزونه اللفظي دون طائل، لا يتكلم بما فيه الكفاية، أو على الأقل لا يكثر من الثرثرة الحرة بما فيه الكفاية، مفضلاً الاستقالة اللفظية دون مبرر. ثم إن الذين يتكلمون يفضلون دوما أن يدرسوا ما يتكلمون عنه، بعناية زائدة، حتى أضحى الكلام أقرب ما يكون إلى تقارير مصمغة تخلو من البراءة والعفوية، وكم نحن بحاجة إلى ثرثرة حرة لا تراقب، ولا تؤطر، ولا تدخل في حذاء صيني، محدد المقاسات. إن ثرثرتنا موظفة توظيفاً مصلحياً، ويغلب عليها الانتهاز المسكين، إذ ما تفسير هذه الأمثال التي تغزونا دوما: »ابعد عن الشر وغنّ له« أو »فخار يكسر بعضه« أو »اليد التي لا تقدر عليها قبّلها وادع عليها بالكسر«. ‏

إنها تطالبنا بكل وقاحة، ألا نفتح أفواهنا إلا لتأمين حاجاتنا الآتية المباشرة، وتحظر علينا التحدث بالقضايا العامة، حيطة وتحسباً، بل إنها تجعل من أعظم القيم سلعاً تخضع لقانون الربح والخسارة. ‏

‏ ـ 6 ـ ‏

كانت المعركة، في بدء هذا القرن، بين ثقافة الموز وثقافة النبيذ، على نحو ما صورها أحد الكتاب المتحذلقين، المقصود بالأولى، الثقافة الطازجة التي ترتبط بتناقضات العصر وهمومه، حتى تكاد تكون أشبه بالموز الذي يفسد إذا لم يؤكل مباشرة، والمقصود بالثانية، الثقافة المعتقة التي ترتبط بالقيم الخالدة التي لا تتأثر بتواتر الأحداث وضغوطاتها، حتى تكاد تكون كالنبيذ الذي تزداد قيمته كلما تعتق في الأقبية، وأكاد أزعم الآن أن الثقافة السائدة هي ثقافة ورق التواليت التي ليس لها من مهمة سوى مسح الأوساخ والأدران التي تفرزها سلطة غاشمة من جهة، أو واقع مأساوي من جهة أخرى. ‏

تضايق »اورتيغا اي كاست« الإسباني من »مداهمة الجماهير الجائعة لمعابد الثقافة، كمداهمتها لأفران الخبز«، ووصف عملية المداهمة بأنها انتهاك رخيص، غوغائي، يستهدف تقويض الحضارة، هتف بغضب: »أيها الجلادون الصغار، أوقفوا الزحف البربري، إذ لا يحق للغث أن يطالب بحقه في أن يكون غثا...« ‏

‏ ـ 7 ـ ‏

الإنسان العربي، وهو يقف شبه عار في العراء، بلا كسوة سلطوية، ولا عباءة جماهيرية، يتوق إلى الصداقة البريئة النزيهة، فهي وحدها القادرة على ضخ شيء من الدفء في شرايينه ونسجه وأليافه، لم يعد يتحمل إرهاب الإخوة ولا انتهاز الرفاق، الأولون قد يغتالونه في وضح النهار، والآخرون قد يجعلون منه سائلاً يغسلون به خطاياهم وأوزارهم، لقد تعب، وهو بحاجة إلى صدر يرتمي عليه، وقلب يغوص داخله، وفضاء نظيف يتنفس فيه، وأصدقاء طيبين يعيش معهم بسلام وأمان. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...