عاصي الرحباني وسعاد حسني عاشا طويلاً على حافة الحياة

23-06-2011

عاصي الرحباني وسعاد حسني عاشا طويلاً على حافة الحياة

إنها مناسبة مزدوجة. الاحتفال بمرور ربع قرن على رحيل عاصي الرحباني، والاحتفاء بالذكرى العاشرة لوفاة سعاد حسني. لوهلة أولى، يُمكن القول إن الأعوام الماضية كلّها مرّت سريعاً. أعتقد أن أناساً كثيرين يتذكّرون، لغاية اليوم، لحظة رحيل الرحباني الأب في واحدة من الفصول السوداء للحرب الأهلية اللبنانية، كما لو أنها حدثت الآن. أعتقد أن أناساً كثيرين أيضاً لم ينسوا لحظة إعلان نبأ "وفاة" سعاد حسني،سعاد حسني: الموت المؤجّل.. الحياة المؤجّلة كأنهم استمعوا إليه راهناً. مرّ وقتٌ طويل. لكن التراجع الفظيع في مستويات العيش كلّها، لبنانياً وعربياً، جعل المرء يعاني ألم الانكسار، فإذا بعودته إلى لحظات كهذه أشبه بخلاص مؤقّت من فراغ الآنيّ. جعله يشعر بأن الوقت الذي مرّ طويلٌ جداً. أو ربما قليلٌ للغاية. ربع قرن. عشرة أعوام. والصورتان حاضرتان بقوّة. مع عاصي الرحباني، المسألة واضحة: فنان مُصاب بمرض أقعده طويلاً، قبل أن ينهال الموت عليه آخذاً إياه إلى المجهول. مع سعاد حسني، المسألة غامضة. أو ملتبسة: وقوعها من الطابق السادس في مبنى لندنيّ أثار أسئلة عدّة. الرواية المصرية الرسمية أفادت بانتحارها. مقرّبون منها رفضوا هذه الفرضية، مستندين إلى مفارقات حدثت قبل الوفاة الغامضة: حيويتها. تفاؤلها. رغبتها في العودة إلى القاهرة. رغبتها في استعادة نشاطها الفني أيضاً. اعترافها باستعدادها لكتابة مذكّراتها. عاصي الرحباني وجد في المرض والموت نوعاً من استراحة محارب. لعلّه ذهب إليهما لاختبار نسق آخر من التعبير الإبداعي. الفنان راغبٌ أبداً في الاختبار. المرض والموت جزء من اللعبة المكشوفة أمام القدر والتبدّلات. لا أقصد بذلك أن عاصي الرحباني اختار الموت بقرار واع. أقول إن محاكاة الموت، خصوصاً أثناء المرض، تجربة روحية وجسدية وانفعالية. هذا ما أشعر به إزاء سعاد حسني: أبعدها المرض عن مساحتها الخاصّة. جعلها منزوية ووحيدة في معتزَل بارد. لكن العزلة هذه اختبار من نوع آخر. المرض فتّاك. مقارعته أساسية في مواجهة العدم. الخروج منه انتصارٌ للمرء في اختبار قدرته على ابتكار أشكال جديدة من الحياة. قليلون هم القادرون على فعل هذا. اختبارات أميل إلى القول إن عاصي الرحباني وسعاد حسني نجحا، إلى حدّ كبير، في جعل المرض أداة انتقال من حالة إلى أخرى. نجحا، إلى حدّ كبير، في تأجيل موعد الموت مراراً وتكراراً. ربما لهذا السبب، قال مقرّبون من سعاد حسني بخطأ فرضية الانتحار. قالوا بالافتراء الحاصل على هذا المستوى، لقناعتهم بقدرة الفنانة على التحايل الدائم على المرض والموت معاً. أم أن الشكل الخارجي خادعٌ؟ أم أن التعب وثقل المرض دافعان إلى قبول الموت طوعاً، في لحظة ما؟ أميل إلى القول إن النضج الإبداعي الخلاّق أذكى من الانجراف إلى قذارة الموت البسيط: الذاهبون إلى انتحارهم مقبلون إلى تحقيق أحد أبرز تعابير الإبداع الناضج في مقاربة الأشياء، وإن شكّل اللاوعي مخزناً كبيراً وعميقاً وخفياً لهذا النمط من السلوك. فسواء انتحر الفنان أم ذهب إلى موته "غصباً عنه"، أرى أنه استفاد من عيشه اليومي على الحافة الأخيرة للحياة، لاختبار التضاد الحاصل بين حياة مقيمة في قلب الموت، وموت منفصل عن الحياة ومرتبط بها إلى أقصى الحدود الواهية بين الواقع والمتخيّل. هذا كلّه مجرّد تلاعب بالألفاظ والمفردات. لا بأس. أمام موتِ كبيرٍ، أو الاحتفال بذكرى رحيله، لا بأس بتفلّت الكتابة من قيود المهنة أحياناً، وبجعله انعكاس شيء ما من وجع داخلي ذاتيّ خاص. ذلك أن الصراع القوي الذي أدركه عاصي الرحباني في أعوام مرضه، جعلت النصّ غير المُنجَز من قِبله عاصي الرحباني: متعة المواجهة مقدِّمةً لمحاولة فهم العلاقة القائمة بين الجسد والروح، في اللحظات المصيرية الحاسمة. وهذا صراع أعتقد أنه لا يختلف كثيراً عن صراع سعاد حسني مع الحياة برمّتها، قبل مرضها، وأثناء تفشّيه في جسدها. أتساءل دائماً عن قدرة المرء على احتمال الإقامة اليومية مع مرض فتّاك، أو فيه. أي مع موت مؤجّل، أو فيه. صحيح أن الموت المؤجّل حاضرٌ في يوميات الجميع، سواء أكانوا مرضى أم لا. غير أن المرض أقسى. إنه تذكير دائم بإقامة المرء في موت مؤجّل. لكن، أليست الحياة برمّتها مرضٌ من نوع آخر، خفي وغير مرئي تماماً، يُذكِّر المرء يومياً بإقامته في قلب الموت المؤجّل هذا؟ أتساءل مراراً عن المشاعر التي تنتاب فناناً مريضاً يواجه موته المؤجّل ويتحايل عليه. إلى أي مدى يلتذّ الفنان المبدع بلعبة كهذه؟ هل يلتذّ بها أصلاً؟ هل طلب لنفسه الإقامة الجبرية في موت يتلاعب به؟ أتساءل عن الثواني الأخيرة التي فصلت انزلاق سعاد حسني من طابق سادس إلى أرض باردة في بلد المستعمِر القديم: هل هناك وقت للتذكّر؟ للشتم؟ لإنزال لعنة، أو لتمنّي أمنية أخيرة؟ الثواني الأخيرة، أم الأعوام السابقة للموت: أيهما أقسى؟ أيهما أفصح تعبيراً عن المرء في نهايته المؤكّدة؟ أيهما أجمل، إن حمل درب الموت جمالاً مختلفاً عن قبح الحياة؟ فضاء تساؤلات لا تنتهي. كتابة معلّقة في فضاء أشبه بذاك الذي حمل سعاد حسني من علوّ منخفض إلى انخفاض الروح في عالم موبوء بألف فساد ولعنة. قيل مراراً إنها لم تنتحر. إن سلطة غاشمة طاردتها إلى صقيع لندن للخلاص منها. للخلاص من مذكّراتها غير المكتوبة بعد. أسرار جمّة دفنتها سعاد حسني معها، كما أراد قاتلها. هذا ما تردّد منذ لحظة الإعلان عن "وفاتها". "ثورة 25 يناير" أعادت تسليط الضوء على اللحظة المفقودة هذه. تحاليل طبية قادرة على جلاء غموض ما. الموت الطالع من قناعة ذاتية بوجوب الرحيل لا يختلف كثيراً عن الموت المفروض بالقوة. هذا صحيح، لأن الموت واحدٌ في نهاية المطاف. لا أقصد بذلك أن الحياة الثقافية أو الفنية "خسرت" مبدعاً. أو أن المبدع مقيمٌ أبداً في أعماله. قيل للسينمائيّ وودي آلن ذات مرّة إنه سيبقى، بعد رحيله، حيّاً في أعماله. كان جوابه بسيطاً: "أفضّل البقاء حيّاً في غرفتي" (أو ما شابه ذلك). الخسارة الناتجة من موت أحدهم كامنةٌ في الفقدان: فقدان المرء حياته، سواء في حياته، أم عند موته. والفقدان لا يُعوَّض أبداً، وإن أورث الراحلُ أحبّاءَه "أشياء ثمينة". كثيرون يعتبرون بقاء عاصي الرحباني ضروريٌ لأسباب إبداعية. أرى أن بقاءه حيّاً كسبٌ إضافي له، أي لشخصه وحضوره وسعيه إلى اختبار الحياة أكثر فأكثر. كسبٌ له لن يفهمه أو يُقدّره أو يتمتّع به أحدٌ آخر سواه. أم أنه أراد موتَه راحة ما؟ كثيرون تمنّوا بقاء سعاد حسني حيّة، إما لرغبتهم في عودتها إلى الشاشة الكبيرة، وإما لتوقهم إلى ملاقاتها هنا أو هناك. أرى أن بقاءها حيّة انتصارٌ لها، هي وحدها، من أجل حياة تريدها، ومن أجل موت يليق بخياراتها. لم أشأ تنظيراً لا فائدة منه. أردتُ الاحتفاء بهاتين المناسبتين فقط، بعيداً عن استعادة سيرتي صاحبيهما وأعمالهما، أعرف سلفاً أنها (الاستعادة) لن تكون مكتملة أبداً. العيش مع الموت أعواماً عدّة خطٌ واحد اختبره عاصي الرحباني وسعاد حسني. الانزلاق إلى حافة الموت أيضاً. الانزلاق إلى الموت، وفيه. التصدّي له بالتحايل عليه. هذا جميلٌ. تُرى، هل يتمنّى المرء أمراً كهذا لنفسه؟ أم يكتفي بإسقاطه على آخرين، عاشوا الحياة على تخوم الموت أو في عمقه، من دون تنظير أو تصنّع أو تفنّن بأقوال غير مجدية؟ أميل إلى القول إن هؤلاء عاشوا كما شعروا، واشتغلوا كما أرادوا، وقالوا ما ابتغوا قوله، وعندما ماتوا، برز أناس يجيدون لعبة الكتابة، فأسقطوا عليهم تحاليل إن قرأها هؤلاء بعد موتهم لسخروا منها ومن كاتبيها بالتأكيد. ن. ج. عاصي الرحباني: متعة المواجهة سعاد حسني: الموت المؤجّل.. الحياة المؤجّلة

نديم جرجورة

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...