سينما تُشوِّه التاريخ...وأخرى تجعلنا أكثر إنسانيةً

03-02-2013

سينما تُشوِّه التاريخ...وأخرى تجعلنا أكثر إنسانيةً

بلا أي تردد سيدافع عشاق السينما والمهتمون بها، الباحثين كالمجانين لالتقاط جديدها، عن هوليوود وجوائز الأوسكار، تلك القمة وذاك الوهج في عالم السينما العالمية ضد اتهامٍ كهذا. فكل يوم تبهرنا شركات الإنتاج السينمائي العملاقة بإنتاجاتها الضخمة، حيث أنها تجيّش كل الطواقم الفنية وكل أساطيل كتاب السيناريو، الذين باتوا يتربّعون على عرش ورشات كتابة السيناريو في العالم، بالإضافة إلى نجوم ونجمات التمثيل الذين باتوا يحومون في خيالاتنا وأحلامنا، حتى أنهم باتوا ينافسوننا على كسب الحظوة عند زوجاتنا وأزواجنا.‏
كل هذا هو جزء حقيقي من الفن السابع/ الفن السينمائي الذي غيّر وجه العالم، وغيّر وجوهنا أيضاً وجعلنا ندرك أخطاءنا وخطايانا، وساعدنا على التخلص من شوائب أرواحنا، حتى أنه كان تعويذة نلجأ إليها كلما عجزنا كبشر عن تحمّل قسوة الواقع وبشاعة الجرائم البشرية التي ترتكب باسم السياسة أو الدين.‏
ولأن السينما هي إحدى إبداعات العقل البشري، يمكنها أيضاً أن تتحول إلى مصدر خطير من مصادر تشويه السمعة الطيبة التي يحاول البشر تركها في وعي أجيالهم القادمة كي لا يقعوا في مصائد من صنع أيديهم.‏
فبعض الأفلام التي تنتجها هوليوود بكثير من «الاعتناء» في سبيل ضمان وصولها إلى أكبر عدد ممكن من المشاهدين في أصقاع الأرض، باتت جزءاً من لعبة سينمائية خطيرة وحساسة، إذ أن البناء الأساسي لسيناريوهات تلك الأفلام، والعديد من مفرداتها ورموزها يرتكز على تراث إنساني لقوميات مختلفة في العالم، تقتنصها آلة هوليود وتنسبها لنفسها وللعقل الأكبر أميركا، وتقدمّها للعالم على أنها من خلق الفرد الأميركي المتفوق بكل شيء حتى في مشاعره الإنسانية تجاه البشرية جمعاء.‏
أذكر هنا مثالاً لا حصراً، فيلماً بعنوان «جيرونيمو»، وهذا الاسم «جيرونيمو» مأخوذ من البطل الهندي الأحمر الذي حارب ضد المستعمرين البيض، وهو اسم أطلقته أميركا على العملية الاستخباراتية العسكرية التي قتل فيها أسامة بن لادن، حتى أن اسم القبيلة التي ينتمي إليها جيرونيمو هي قبيلة «الأباتشي» وهو اسم أطلقته أميركا على أحدث طائراتها المقاتلة نوع»أباتشي»، وأعتقد أن في ذلك تشويهاً لتراث الهندي الأحمر، وترسيخاً لشعورٍ سلبيٍّ تجاههم في الذاكرة الجمعية للبشر، وليس تمجيداً لهم كما يمكن أن تدعي أميركا.‏
وقد عملت أيضاً شركات الإنتاج السينمائي العملاقة على التعامل مع أفراد المجتمع الأميركي، بل مع كل سكان الكوكب، كمستهلكين في سوق تجاري ضخم، منطلقةً من فكرة ذكيّة لدرجة الخبث، هي أن: «في الولايات المتحدة الأميركية لا أحد يخسر وكل شيء قابل للتغيّر»...» وتجاه ذلك تسعى السينما الأميركية لاجتذاب المشاهد الأميركي الذي يشكل مَنْ هم دون 25 من العمر نسبة 47% ممن ترعرعوا على ألعاب الفيديو» «ملحق الثورة العدد760، تاريخ 4/10/2011»‏
الخطر في المسألة هو أن الأمريكان يشتغلون كثيراً ويومياً وبشكل متعدد النواحي على ترسيخ الأفكار والشخصيات بشكل يجعلها غير قابلة للنسيان، وبشكل يجعل منها بصمة خاصة تدخل تاريخ أميركا، فهم يقتبسون بعناد من كنوز حضارات عالمية، ويشتغلون بخبث مضمر على جعلها ترسخ في الذاكرة العالمية على أنها من إنتاج أميركا، أي حتى لو تم ذلك على حساب «الأحقية التاريخية»، وهذا أخطر مما يبدو أنه مجرد سرقة أغنية تراثية من هنا، وقصة شعبية من هناك، لأنني أعتبره «اختطاف» لتراث بأكمله وتحويله بكيمياء شرسة إلى ملك لهم. بما يجعلنا كمشاهدين ومستمعين وقارئين نستعيدها في ذاكرتنا وفي يومياتنا وحتى في خيالاتنا على أنها أميركية، مثل شخصية «السوبرمان» وشخصية «طرزان» «قصة حي بن يقظان» و»المرأة القطّة»»الحضارة الفرعونية»، والفتاة/الدمية «باربي»، و»سبونج بوب/ الإسفنجة بوب»، وغيرها الكثير من قصص خيالية مثل: قصة بياض الثلج، وقصة الجميلة والوحش، وقصة سندريلا، حتى لو علمنا أن المنشأ أو الخيط الأول الذي ارتكزت عليه تلك الشخصيات هو في حكاياتٍ عربية مثل «ألف ليلة وليلة» أو حكايات شعبية تراثية من أعماق الخزان التراثي لأعراقٍ ومجتمعات بشرية قديمة كالفراعنة وبلاد فارس والحضارة اليابانية والأساطير الهندية».‏
لكننا نلحظ في مقابل ذلك التحريف والابتلاع أن هناك سينما «عالمية» ابتكرت بصمتها الخاصة، وسبحت في تيارات جديدة عبر محيط الإنتاجات السينمائية العالمية الشاسع، واستطاعت أن تثبت أنها إحدى الأنواع القادرة على البقاء، بل وترك الناس في تشوّقٍ لرؤيتها: إنها السينما الإيرانية!‏
فإذا كانت السينما مقياس من مقاييس حضارة شعب من الشعوب، فإن السينما الإيرانية هي بالفعل وريثة حضارة قديمة تؤكد لنا أن الإنسان يجب أن يكون أسمى من أي معتقدات دينية وأي عقائد اجتماعية ومن كل الأيديولوجيات السياسية حتى لو أثرت فيه وحفرت أثلاماً في إنسانيته الأولى أو إنسانيته الفطرية.‏
أصوغ فقراتي لأصل إلى الحديث عن فيلم إيراني ينقلك في كل لحظة إلى وقفة مع الذات، ويضعك أمام دهشة أزلية بلا معقولية الإنسان وهشاشته، وفي نفس الوقت أمام تناقضاته القاتلة. كما يقودك إلى الاعتراف، بكل محبة، بعظمة السينما الإيرانية التي ارتقت بهذا الفيلم، وارتقى بها إلى جوائز عالمية آخرها الأوسكار.‏
«انفصال نادر وسيمين»، إخراج أصغر فرهادي:‏
هو فيلم مركب، متعدد الاحتمالات، لا يترك لك متسعاً لتتساءل عن مَنْ هو الذي يمتلك الحق، ومن هو المحقوق في شبكة العلاقات البشرية لشخصيات الفيلم، فالشرط البشري هو الذي يقفز في كل لحظة توتر بين الشخصيات، لتصبح أفعالها محكومةً لتناقض مدمّر بين رغبة في أن تكون خيّرة وصاحبة حق في نظر نفسها ونظر الآخرين، وبين إدانة عقلانية موضوعية ساقتها الضرورة الواقعية لما هو حاصل غصباً عن «إرادة» الجميع.‏
القصة تبدأ مع قرار الزوجة»سيمين» الانفصال عن زوجها، لا لفقدان الحب بينهما إنما لرغبة منها في السفر خارج البلد وتحسين ظروفها، بينما يرفض الزوج «نادر» قرارها لوجود والده المصاب بالزهايمر المتعود على وجودها، وخوفاً على مستقبل ابنتهم ذات الأربعة عشرة سنة، وبسبب ذلك يضطر الزوج لتوظيف امرأة تعتني بوالده، فتتشابك الأحداث إذ يحصل شجار بين الزوج والخادمة التي تترك الرجل العجوز مربوطاً بحديد السرير خوفاً من أن يغادر البيت كعادته القديمة لشراء الجريدة، وترفع الخادمة دعوة قضائية على الزوج وتتهمه «زوراً» بالتسبب بمقتل طفلها الجنين... حتى نصل إلى نهاية الفيلم المعجون بالتفاصيل التي تحبس الأنفاس.‏
تنسيك عظمة القصة/الفيلم تفصيلاً مهماً جدا في حياة إيران الواقعية، اعتاد دعاة «الإسلاموفوبيا» ألا وهو «الحجاب»، وهو في الفيلم ليس إلا المظهر الخارجي تماماً لشخصيات تتمحور معضلتها الإنسانية حول ما يتجاوز الشكل الخارجي وينفذ نحو الدواخل، نحو كثافة اللحظة الإنسانية في الحوارات المتداخلة بينها.‏
في الحديث عن السينما الإيرانية لا يمكننا أبداً تجاهل أنها سينما عريقة، بدأت من زمن «مظفّر الدين شاه» بافتتاح أول صالة عرض عام 1903 ، وظهر أول فيلم إيراني عام 1930.‏
وحين نعلم أنها من أوائل السينمات في العالم اهتماماً بالأطفال وقضاياهم، وأعطت أدواراً رئيسية لهم منذ الثمانينيات، وحين تكون مخرجات إيرانيات مساهماتٍ في صياغة نقلة نوعية في السينما الإيرانية كفيلم المخرجة «رخشان بني اعتماد» بعنوان «نحن نصف الشعب الإيراني، وحين تحتضن السينما الإيرانية مخرجين عمالقة مثل: عباس كيروستامي وفرّوغ فرّخذاد، وأصغر فرهادي، وغيرهم ممن صنعوا تاريخ السينما الإيرانية، بل وأثّروا في سينما شعوب أخرى.‏
مع كل ما ذكرت فإن السينما الإيرانية تستحق أكثر من جائزة أوسكار، بل يمكنها هي، وبكل جدارة، أن تمنح جوائز عالمية لغيرها من إنتاجات سينمائية في العالم.‏

جواد ديوب

الملحق الثقافي ـــ الثورة


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...