سعاد جروس: الكل للسياحة

05-05-2007

سعاد جروس: الكل للسياحة

الجمل- سعاد جروس: كلما أطلق وزير سياحتنا تصريحاته السخية حول الوضع السياحي في بلدنا, تحسسنا جيوبنا قلقاً على ما بقي فيها من قروش بيضاء لأيام مقبلة لا نعرف لونها إن كان غائماً أم مدلهماً. ويزداد القلق مع التعاطف الحكومي المنقطع النظير الذي عبر عنه رئيس حكومتنا بالقول من دون تنظير, بأن «الكل للسياحة»؛ و«الكل» هنا بمعنى كل الوزارات وما يتبعها من مديريات, وإذا شئنا المبالغة تعني ايضاً كل الشعب, ويمكن ترجمة هذا الى اللغة الشعبية الدارجة توخياً للدقة والأمانة في التعبير: «كلنا خرطوش بفرد وزارة السياحة».
وبما أننا نعلق على وزارة السياحة الآمال للنهوض باقتصادنا الوطني, فهي بلا أدنى شك تستحق من حكومتنا ومنا كل الدعم المتفاني, وقد بادرت وزارة الثقافة فسبقت لتعطينا النموذج المثالي في البذل والعطاء, حتى قبل أن يطلق الشعار الآنف الذكر, ومن دون معرفة كم هو إلزامي, وتم عقد اتفاق بين وزارتي الثقافة والسياحة, تخلت فيه الأولى عن مهماتها في حماية الآثار ووضعتها بكل ما فيها من تاريخ وتراث تحت تصرف الثانية, التي صار من حقها التصرف بما تراه مناسباً لخططها السياحية لجذب كبار التجار ورجال الاستثمار, ليحققوا أحلامهم الجامحة على شواطئنا اللازوردية, من دون أن يعوقهم حجب الواجهات العريقة للمدن الساحلية, وفتح المباني «العتيقة» كالخانات الأثرية ليحولوها الى فنادق من فئة خمسة نجوم وما فوق, تزدهر فيها حمامات السونا والجاكوزي والتدليك, تخترق تمديداتها الأساسات ولا تبقي حجراً على حجر, الى جانب مطابخ ضخمة تتفنن بتحضير أطايب مأكولات بلاد العرب والعجم, في استعادة معصرنة لذكريات الزمن التليد من دون أن ينقصها حريم وجوار يطفن بالبخور والطيب على سياح ميامين يتدفقون على بلادنا زرافات ووحدانا, خصوصاً ونحن نوفر لهم صورة عن بلادنا طبق الأصل عن لوحات الاستشراق التي تفوح من جنباتها رائحة ألف ليلة وليلة كما يفضلها الغرب, لتغمر السائح بالسحر الحلال والحرام معاً, فيسرح بخياله ويمرح بأمواله في أستوديو معد خصيصاً لممارسة متعته بالتسوق والتذوق والتقاط الصور التذكارية وفيديو كليبات غرائبية تبز ما تمطرنا بها فضائياتنا الغنائية, فيسرحون مع الغنم والنغم على رمال الشاطئ, ويتمرغون مع الغواني على أسرة الولاة والسلاطين... عندئذ فشرت شهرزاد وشهريار... وفشرت الثقافة وكل الموارد الإنتاجية الاقتصادية, فما ستدره السياحة سينهض بالبلد, ولن يجد الشعب وقتاً لتصريف وصرف كل ما لديه من عملات صعبة وهينة, فالرخاء الموعود يستحق منا جميعاً وقفة عز ونخوة لدعم السياحة بالمال والرجال والعتاد, لنعيش جميعنا حياة سياحية مرفهة بأسعار سياحية, يسيل لمتعها السرية ما في الجيوب لتترقرق عذبة سلسة كالماء الزلال, وتصب في أرصدة المستثمرين الشجعان منتشلي الاقتصاد من التدهور ورافعي أعمدته من الانكسار.
كل هذا لا علاقة له بكل ما يفيد حماية التراث الإنساني المؤتمنين عليه, ولا يحق لنا ولا لمن يأتي بعدنا المساس به أو الاعتداء على ملامحه, ولن يبرر التاريخ مزاعمنا المختلقة والمتحذلقة في التفريق بين الأثري والعتيق, ومن حسن الطالع أن تنصف «الجمعية السورية ­ البريطانية» الشام العتيقة ومناصريها الذين وقفوا ضد مشروع شارع الملك فيصل, باصدار توصية لوقف فوري للمشروع, بعد ورشة عمل تبعها زيارة لوفد من اليونيسكو للمكان, وكانت تلك الخطوات بمثابة اختبار حقيقي للنيات التي كذبت كل الفذلكات والتخرصات التي غطت على ما سيلحقه هذا المشروع من أذى بالنسيج الديمغرافي والمعماري لدمشق القديمة أو «العتيقة» كما يحبذون نعتها, وسواء أخذ بالتوصية أو لم يؤخذ, فقد تم تسجيل الواقعة وسميت الأشياء بأسمائها, كي لا يأتي يوم ويقال فيها إن أهل الشام باعوا شامهم في سوق الاستثمار السياحي, لأنهم يدركون أكثر من هؤلاء التجار الشطار أن السائح حين يأتي إلى بلادنا لا يبغي التمتع بالتمرغ تحت شمسنا الذهبية وحسب, بل ليرى كيف يصمد الإنسان السوري سليل الحضارات الموغلة بالقدم, والتعرف على عاداته وتقاليده وصناعاته وسبل عيشه وأكله وشربه وحتى نومه, إنه الإنسان المعجزة المستمر بتفاؤله رغم وزارة السياحة وغيرها من الوزارات التي تبعث فيه الكآبة من شدة محاصرتها له, ورغم الضغوط بمختلف أنواعها الداخلية والخارجية.
درس نتعلمه: الإنسان مجبول بالمكان, لا قيمة لأحدهما دون الآخر... والشام كأقدم مدينة مأهولة لا يجوز أن تخليها السياحة من الحياة اليومية للسكان, لصالح دكاكين سياحية زائفة تتوسل بتحف مزيفة, وصناعات بازارية, الموزاييك قشور بلاستيكية, والنحاس المطرق ليس أكثر من دهانات وبخ للريزين والجص, وبضائع صينية وهندية, كما أن مدننا وموانئنا الفينيقية ليست منتجعات مطابقة للمواصفات الغربية, وباديتنا بمقابرها الحجرية وحمامات ينابيعها الكبريتية الطبيعية هي الأكثر جذباً للسائح من مولات وفنادق مستنسخة عن السلاسل الدولية المنثورة في كل بقاع الأرض... وقبل دق الناقوس ورفع شعار كلنا للسياحة ولبس المايوه والسباحة, ليتهم يهتمون بمراقبة ما تقدمه المطاعم السياحية وانسجامه مع قوائم الأسعار ومطابقتها لمعايير الاستهلاك البشري ومدى مواءمتها لدخل الفرد, فأي أيام سياحية مشحرة سيقضيها السائح في بلادنا إذا ما اصابه الإسهال من لقمة سياحية مغشوشة, وأي حمامات عامة يدخلها من دون أن تتوافر فيها أدنى الشروط الصحية!! وإذا شئنا المتابعة على هذا المنوال في تعداد مناقبنا السياحية, نسأل وزارة السياحة التي استولت على الأمكنة الأثرية عن دورها في الرقابة على المطاعم والحمامات العامة, وأيضاً عما إذا لفتت انتباهها نظافة الأمكنة الأثرية, حيث تتلازم كلمة «عبق الماضي» ­ التي نعشق استخدامها في الكتابات السياحية عن المواقع الأثرية ­ مع رائحة البول المتضوعة من دهاليز الصروح التاريخية, وعلى سبيل المثال لا الحصر €الأمثلة أكثر من أن تحصى€ هل استنشق أحد المسؤولين عبق الماضي في القاعة البيزنطية في قلعة حلب؟ وهل قرأ على جدرانها وعلى أبواب القلعة الخشبية ما حفره الزوار من المراهقين من كلمات بذيئة بالبنط العريض؟!
ومع ذلك لا نملك سوى البصم بالعشرة على شعار المرحلة السياحية «الكل للسياحة»! وبقي أن نقول لقائل الشعار ولوزير السياحة: قالوا للجمل زمر. قال لا شفف ملمومة ولا أيادي مفرودة.

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...