زياد الرحباني.. إطلالته الأولى منذ التسعينات

15-08-2008

زياد الرحباني.. إطلالته الأولى منذ التسعينات

خلال البروفة أمسدمشق تستقبله بالأحضان بعد انتظار طال. إنّه لحدث تاريخي، موسيقيّاً بالدرجة الأولى. فرصة نادرة تتاح للرحباني الابن، بفضل تركيبة الفرقة الموسيقية، كي يجسّد رؤيته الصافية لمؤلّفاته. خمس أمسيات لن تنسى، ابتداءً من الليلة، لإعادة اكتشاف «يا ليلي ليلي ليلي» و«أبو علي»، و«صباح ومسا»...

بعد إحدى حفلاته في «لاس ساليناس» عام 1998، تسلّلت إحداهنّ إلى كواليس المسرح بهدف لقاءٍ عابرٍ معه. ولا شك في أنّ تلك السيدة حضّرت عشرات الجمل للتعبير عن مشاعر التقدير والإعجاب التي تكنّها لزياد الرحباني، لتقولها دفعةً واحدةً... وترتاح. لكنّ جملة واحدة خرجت من فمها، أتت مسلّحة بصِدق المتألم لخسارة كبيرة، لا أحد يعي مداها غيره: «...إنتَ ما بْتعرِف شو في بهالراس!». صرخت السيدة وهي تدقّ بيدها المقبوضة على ذاك الرأس المكسو بشُعَيْرات قصيرة رطّبَها العرق.
هذه ليست حالة فردية، بل جَماعية يعبِّر عنها كثيرون. وليس في الأمر أي سوء، لكن هل السائل نَفسه يعرف حقاً «شو في بهالراس»؟ فإذا كان زياد الرحباني نفسه لا يعرف قيمة فنّه وفكره، فكيف لأحد أن يقدّر قيمة ما أعلن عنه الرأس، وبطبيعة الحال ما لم يُعلِن عنه بعد؟
عندما نتكلّم عن قيمة زياد، لا يمكن إلا اعتبار موسيقاه من إبداعاته الأقل فهماً (بالعمق) من قبل شريحة كبيرة من عشّاق أعماله. لكن ما الفرق في النتيجة بين تأثير هذه الأعمال على مَن يدّعي أنّه يعرف قيمتها، ومن يعترف بأنّه لا يملك وسائل تقديرها؟ لا شيء. هكذا يمكن أن نختصر ـــــ من دون تنظير ـــــ التعريف بزياد الموسيقي. وهكذا هم أجمل الكبار وأكثرهم احتراماً للإنسان، ومعرفةً بعمق النفس البشرية بعيداً من الطليعية النخبوية والشعبَوية التجارية.
إذاً كلّنا، سنكون الليلة في خندق واحد، ونزحف إلى دمشق لملاقاة زياد وفرقته الموسيقية حيث سيقيم سلسلة حفلات تحتضنها قلعة دمشق، وتستمرّ حتى 19 آب (أغسطس) الجاري ضمن احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» (راجع مقالة الزميل خليل صويلح في مكان آخر من الصفحة)
حدثٌ أقل ما يقال فيه إنّه تاريخي، ليس لأنّها الزيارة الرسمية الأولى لفنانٍ إلى بلدٍ عشّاقه فيه بالآلاف ينتظرون هذه المفاجأة منذ عقود. إنّما الحدث تاريخيٌ موسيقياً إذا جاز التعبير، إذ إنّ تركيبة الفرقة ستتيح لزياد فرصة التعبير عن رؤيته الصافية لكثير من أعماله. أما نحن، فسيمنحنا اللقاء لحظات يُعَوَّل عليها لتكوين الفكرة الأدقّ عن قدرة زياد الإبداعية في مجال الموسيقى، وتحديداً في ما يخصّ التوزيع وانتقاء المزيج الهارموني الأفضل (معقّداً كان أو بسيطاً) وقدرة إنتاج الصوت المراد (ذبذبات كان أو صمتاً)، وحسن اختيار الآلات المطلوبة لإصداره وجرأة إسكات أخرى ستعكِّره.
إذا استثنينا حفلات فيروز في بيت الدين، يمكن القول إنّ الفرقة الموسيقية التي سترافق زياد على مدى خمسة أيام، تتمتّع بالتركيبة الأكمل مقارنةً بجميع إطلالات زياد من حيث عدد الآلات الحاضرة وتنوّعها. في الصالة المخصصة للتمارين في معهد الموسيقى، وعلى مقربة من دار الأوبرا في العاصمة السورية، جلس أعضاء الأوركسترا (ذات التركيبة السيمفونية) التي لطالما حلمنا بأن توضع تحت تصرف زياد لكي تُؤدَّى أعماله كما يريد، وكما نريد أيضاً. عائلة الوتريات بجميع أفرادها ومجموعاتها، وآلات النفخ النحاسية والخشبية والآلات الإيقاعية الشرقية والغربية (وهنا حضرت آلة التيمباني العزيزة على قلب زياد، وحضر أرنو عازف الدرامز الهولندي)، إضافة إلى الكورس، و... بيانو «شتاينواي» طبعاً.
وسط بحر من الموسيقيين (لبنانيون وسوريون وفرنسيون وأرمن)، وقف المايسترو النحيل ذو الملامح الحادة. إنّه قائد الأوركسترا الأرمني كارن درغاريان الذي بات من أهل البيت منذ حفلات فيروز في بيت الدين عام 2000. بضع كلمات بلكنة إنكليزية ركيكة، وتنطلق المقطوعة، فيتراقص كارن بانفعاله المعهود، ويقلّد أصوات الآلات عند الفواصل والجمل الموسيقية التي يرى فيها عبقريةً فائضةً، فينظر إلى زياد المتجوِّل المراقِب أو الرّاسي خلف البيانو، ويبعث إليه بابتسامة إعجاب وتقدير... تتوالى التمارين فنصل إلى «راجعة بإذن الله»، نبدي إعجابنا بالإضافات الجميلة على التوزيع الأصلي، معتقدين أنّها ثمرة الخبرة الطويلة، فيردّ زياد: «... هذا التوزيع هو الأصلي ويعود إلى عام 1979، ولكنّ ظروف التسجيل الرديئة لم تسمح بتنفيذها بشكل جيّد. لذا، لا يمكن التقاط التفاصيل الدقيقة البارزة هنا... طالعة ديسكو هونيك».
التوزيع الموسيقي لكلّ المقطوعات والأغنيات (حوالى عشرين عملاً تعود إلى مراحل مختلفة من نتاج زياد) يبدو جديداً، وتبدو الإضافات الجميلة كثيرة، لكن في الواقع ـــــ وعلى رغم وجود بعض الإضافات ـــــ التوزيع هو قريب لما كُتِب في الأصل. إذاً أين الجديد؟ الجديد يكمن في الأداء، وفي اكتمال التركيبة الموسيقية المطلوبة لهذا الأداء. بمعنى آخر، أولاً، في معظم حفلاته، اضطر زياد إلى توليف التوزيع تماشياً مع تركيبة الفرقة. وثانياً، النسيج الموسيقي لمعظم مقطوعات زياد (وهو كلاسيكي ولو أنّ المقطوعة هي على إيقاع فانك أو جاز...) يدخل تنفيذها في لعبة الأداء الأوركسترالي، تماماً كأي عمل سيمفوني التركيبة (سيمفونية، كونشرتو، افتتاحية...). وكما نستدلّ مثلاً إلى أفضل تسجيلٍ للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن، سنسمع اليوم أفضل أداء لـ«يا ليلي ليلي ليلي» و«مقدمة لولا فسحة الأمل 2»، و«جسر القمر» و«... وقمح»، و«أبو علي»، و«صباح ومسا»...

 

-لطالما اتُّهم الفنان زياد الرحباني بإطلالاته القليلة، وهو مُطالَب دائماً من محبّيه بجديد يروي (عبثاً) غليلهم. لكنْ إذا قمنا بجردة لنشاطات السنوات الأخيرة، نرى أنّ هذا الاتهام باطلٌ، وما المطالبة الدائمة إلاّ من باب العشق الذي يخربط العلاقة الطبيعية بين الشوق والوقت. وإذا كان صحيحاً أنّ زياد مجحف نسبياً في إنتاجه الفني، فالسبب الأساسي في ذلك يبرّر غاية فنية ترتقي إلى مستويات إنسانية بالمعنى الماركسي: تقديم النوعية الأفضل، بمهنيّة مسؤولة (قد لا يقدرها «المطالبون» أنفسهم).
بما أنّ جديد زياد اليوم هو إطلالة موسيقيّة حيّة، نحصر رصدنا إذاً بأبرز الحفلات وذلك خلال فترة محدودة (منذ عام 2000)، إذ يستحيل الإحاطة بتقديمات هذا الرجل الاستثنائي بنشاطه وانتاجيته العالية في أكثر من مجال.
بعد حفلات آخر التسعينيات، أطل زياد الرحباني عام 2000 مع السيدة فيروز في مهرجانات بيت الدين، فأشرف على البرنامج وتولى التوزيع الموسيقي وشارك عزفاً على البيانو. وتكرّر السيناريو نفسه حتى عام 2003 (باستثناء حفلات عام 2002 التي افتقرت إلى بيانو زياد). حفلات موسم عام 2003 في بيت الدين، سبقتها إطلالة ببرنامج مماثل (مع فروقات قليلة) لفيروز وزياد في دبي التي عاد إليها زياد عام 2005 لتقديم Da Capo مع فرقته، قبل أن يعلن السنة الماضية عن حفلتين في بيروت (الأونيسكو) حملتا العنوان ذاته.
في عام 2001، وبُعَيد صدور «مونودوز» (مع سلمى مصفي)، قدّم زياد مع غسان الرحباني (الذي كانت له مشاركة غنائية في هذا الألبوم) حفلتَين بعنوان «منيحة» في مدرسة «مون لا سال» (عين سعادة)، انقسم فيهما البرنامج بين أغنيات لغسان وأعمال لزياد، معظمها من «مونودوز».
وفي عام 2004، قام زياد بجولة بين الجبل والشمال، فقدّم برنامجاً كلاسيكياً في ثلاث حفلات في بعقلين، تلتها ثلاثٌ أخرى في «لاس ساليناس» (أنفه). وفي السنة نفسها، شارك زياد إلى جانب خالد الهبر في الاحتفال بالعيد الثمانين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني (حفلتان في قصر الأونيسكو، تلتهما حفلة في الإطار ذاته في معرض رشيد كرامي الدولي ـــــ طرابلس)... أما آخر لقاء لزياد مع الجمهور، فيعود إلى أيلول (سبتمبر) الماضي، عندما شارك إلى جانب فنانين عدة من سوريا ولبنان، في إحياء العيد الأول لـ«جريدته»، «الأخبار»، في الأونيسكو.
من جهة ثانية، تنقّل زياد وفرقته بين العديد من الحانات البيروتية، وقدم في إطار ثابتٍ أو عابر أمسيات طغت عليها موسيقى الجاز.

بشير صفير

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...