تاكسي لخالد خميسي-نوع مهم من التدوين

04-08-2008

تاكسي لخالد خميسي-نوع مهم من التدوين

الجمل- غسان زكريا:  قبل سنوات عدة، كنتُ قد فكرتُ -في إطار محاولاتي لخلق فرصتي في الإخراج- أن أصنع فيلماً تدور كل أحداثه في التاكسي (أي سيارة الأجرة)، فالتكسي هو واحد من أهم المنافذ لقراءة المجتمع -دون شك-، لكنني لم أهتم يوماً اهتماماً صادقاً بما يكفي لأن أضع نفسي وراء مكتبي وأتصدى فعلاً لكتابة فيلم من هذا النوع. لم تكد الفكرة تصبح جدية، حتى علمتُ بفيلم مصري قديم يدور حول الفكرة نفسها، فأصابني شيء من الإحباط. أتذكر أيضاً أني تحدثتُ إلى أكثر من شخص عن رغبتي بالعمل لفترة ما على التكسي لأخزن حكايا اجتماعية تكون زاداً درامياً صادقاً أزود به أحد أعمالي القادمة -غير المحددة تماماً بعد-، إلا أنني طبعاً لم أكن جاداً بما يكفي لأنفذ هذه الخطة، فأنا أعرف كسلي وضعفي -الجسدي على الأقل- أمام مهنة من هذا النوع، وتحتاج إلى هذا الكم من الجهد. باختصار، لستُ الوحيد ولا الأول ولا حتى العاشر الذي فكر في استثمار التاكسي كمكان لأحداث أو استقراء المجتمع.
رغم كثرة الذين فكروا في الأمر -وأنا منهم- فإن أحداً لم يقم بخطوة عملية وجدية بذلك الاتجاه -على حد علمي- إلا الفيلم المصري القديم المذكور، وسلسلة الأفلام الفرنسية السخيفة تحت عنوان "تاكسي" (وهذه غير محسوبة لأنها تستخدم التاكسي كمادة للتشويق الممزوج بالكوميديا على طريقة الأفلام الأمريكية التجارية)، وكتاب خالد خميسي "تاكسي: حواديت المشاوير" الذي أصدرت منه دار الشروق الطبعة العاشرة مؤخراً. (خالد الخميسي، تاكسي: حواديت المشاوير، ط10، دار الشروق، القاهرة، 2008).
الجديد في كتاب الخميسي عن ما فكرتُ به وفكر به غيري ممن أعرف أن الكتاب لا يستخدم سائق التاكسي شاهداً، بل يستخدم الكاتب نفسه شاهداً لما يقوله سائقو التاكسي خلال "مشاويره" معهم. في الواقع، نبهني الكتاب وقد رأيتُه مشروعاً اكتمل إلى أهمية فكرة تسجيل ما يدور في التاكسي بغض النظر عن الطريقة، فالفكرة التي كانت في رأسي، كانت -بالنسبة لي- طريقة لتنفيذ عمل غير مكلف بسبب مكان أحداثه الموحد وقلة الإمكانيات التي سأحتاج إليها في إنجازه، وهذا شرط مهم لخلق الفرصة. بعد أن قرأتُ الكتاب، اكتشفتُ أن المشروع أهم من ذلك بكثير، إنه نوع من أنواع التأريخ الهام جداً.
خالد الخميسي في هذا الكتاب يسجل هواجس وأفكار هؤلاء السائقين بلغتهم، لغة الشارع (وإن كنتُ أظن أنها قد هُذِّبت في بعض الأماكن) على تنوعها وعلى تنوع أصحابها في انتماءاتهم ورؤيتهم للوضع الحالي وللسلطة وللمعارضة وللاقتصاد المصري. يحتوي الكتاب -بالطبع- على الكثير من العيوب التفصيلية، ولكنني أراها ثانوية جداً في سياق قراءة هذا المشروع. أما بالنسبة للمصداقية، فهي مسألة ثقة بالكاتب، ومحاولة استقراء دقيق لما يقوله السائقون، والاستنتاج إذا كان هذا الكلام مقنعاً على لسان سائق أم لا. من جهتي، أمنح الكاتب ثقة كبيرة بعد أن قرأت الكتاب، ولستُ أدري ما الذي أوحى لي بأن نسبة صدق النص كبيرة إلى حد بعيد.
بعيداً عن كل ذلك -الذي أراه نقاشاً فرعياً-، أعود للقول إن هذا الكتاب هو خطوة جادة ومهمة ونبيلة نحو فتح باب جديد في التأريخ والتسجيل. تأريخ نبض المدينة الحقيقي، ليس القاهرة فحسب، بل المدينة العربية التي مازالت منذ سنوات عدة تتخبط في هويتها بين التَّرييف والتَّأمْرُك والتَّفرْنُس والتَّعرُّب (السطحي) والتَّأسلُم و..و..إلخ. لستُ أشك لحظة واحدة أن هذا النوع من التوثيق (ومن جمالياته أنه ممسوح بمسحة أدبية بسيطة الشكل، عميقة الأثر) هو من أهم وسائل الإجابة على الأسئلة التي تؤرقنا جميعاً في ما يخص هويتنا ومشاكلنا وهمومنا. إنه البوصلة الأصدق والأهم لتدلنا على وجهة عملنا وجهدنا ودفاعنا عن من نعيش بينهم ومنهم وبهم. إننا -كمجتمع وكأمة- نعيش معارك عديدة، سياسية ضد العدو الداخلي والخارجي، اجتماعية ضد الفقر والتخلف، واقتصادية ضد التبعية والاستغلال والغلاء، ومبدئية بحثاً عن الحياة المدنية والمواطنة. رغم تنوع أشكال هذه المعارك المرهقة، فإن سلاحها واحد: الثقافة، وهذا الشكل من الثقافة هو واحد من أكثر الأشكال حيوية وفعالية -إن لم يكن أكثرها على الإطلاق- في خوض هذه المعارك. يجب أن نشكر الخميسي ودار الشروق على هذا الكتاب، ولعله من المبهج أن الفرق بين الطبعة الأولى من الكتاب والطبعة العاشرة هو خمسة عشر شهراً فحسب، مما يدل على الإقبال الكبير -نسبياً- عليه.
من ناحية أخرى -وهذه ملاحظة قد لا تكون هامة ولكني وددتُ تسجيلها لشدة ما سيطرت علي وأنا أقرأ الكتاب-، يلفت النظر مدى التشابه الهائل بين القاهرة ودمشق، ومدى التشابه في الهموم والحكايا. أستطيع أن أستثني ثلاث أو أربع حكايا من ثمان وخمسين حكاية ثم أقول إن من الكافي استبدال اللهجة وأسماء الأماكن وأسماء بعض الأشخاص لتصبح هذه الحكايا قصصاً واقعية تحدث يومياً في دمشق. ما يحدث في الشوارع، في دوائر الدولة، صراع السائقين الدائم مع شرطة المرور، وعدد آخر هائل من التفاصيل لن أسرف في استعراضه.. يكفي أن يُقرأ الكتاب.

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...