النخبة الدينية والثقافية والثورة الإيرانية

28-12-2009

النخبة الدينية والثقافية والثورة الإيرانية

ما أعان الوقت الذي توفّي فيه الشيخ منتظري عن عمر عالٍ على تقويم حقيقي لدوره، وأدوار النُخَب الدينية والثقافية في الثورة الإسلامية في إيران. فالزمان اليومَ غير زمن الثورة، وإشكاليات الصراع على السلطة والدولة اليوم غيرها في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. ثم إن هناك أمراً آخر زاد من عدم القدرة أو عدم الإرادة في التقويم الصحيح. فقد اختلف الشيخ منتظري في عامي 1987 و1988 مع محيط الإمام الخميني، وأفضى ذلك الى إقصائه عن موقع خلافة المُرشد، على رغم أن الإمام كان يعتبره ثمرة حياته أو زهرة حياته! وهذا يعني أن الطرفين المتصارعَين اليوم على السلطة في الجمهورية الإسلامية، ومن ضمن أدواتهما في الصراع التنافس على مَن هو الباقي أكثر أمانة لمشروع الخميني، ليسا متعادلي الكفّة تجاه منتطري. فقد اعتبره الإصلاحيون بطلاً من أبطالهم دونما ذكر لخلافه مع المرشد الأول للثورة، في حين اعتبر الذين في السلطات - ومن ضمنهم المرشد الخامنئي - خلافَه مع القائد نقطة سوداء في سيرته ومسيرته، وابتلاء يُرجى أن يغفره الله له ويتجاوز عنه!

ولا شك في أن الشيخ منتظري فقيه بارز منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي. ويكاد يقعُ منذ ذلك الحين في طليعة الطبقة الثانية من المجتهدين الإيرانيين بعد طبقة مراجع التقليد. لكن فقاهته ما وقعت في أصل دوره الخاص والمتميز في الثورة، بل إن الأصل في أهميته منذ أواسط السبعينات وحتى أواسط الثمانينات أنه ظل الأبرز في التدليل والأبرز في الدفاع عن مبدأ «ولاية الفقيه»، وجوداً وشمولاً. فالمعروف أن كبار المراجع ما دعمت أكثريتهم هذه الرؤية لعلاقة الدين بالدولة أو بالسلطة. والذين سلّموا منهم للإمام الخميني، إنما سلّموا بقيادته هو بوجه خاص، دونما تنظير لولاية الفقيه في شكل عام. والسائد اليوم أن دروس الإمام الخميني التي جُمعت ونُشرت في مطالع السبعينات بعنوان: الحكومة الإسلامية، أو ولاية الفقيه (في ما بعد) هي التي أحدثت التحول في الاتجاهين: اتجاه إزالة حكم الشاه، واتجاه إحلال الفقيه محلّه في السلطة. وفي الخط الثاني، خط شرعنة إحلال الفقيه في موقع السلطان، يقع دور الفقيه منتظري. أما التحول التغييري الأول، أي التوجه الى إزالة المَلَكية في إيران، فإن دوائر أوسع وأكثر تعدداً واختلافاً من رجال الدين والمثقفين، قدمت إسهامات ملحوظة فيه.

فالانتكاسة التي نزلت بحركة محمد مصدَّق في مطالع الخمسينات - وكان لبعض رجالات الدين الخائفين من اليسار والشيوعية دور فيها - أحدثت هزة عنيفة وبعيدة المدى في أوساط النُخَب الثقافية والدينية الإيرانية باتجاه الإصلاح أو التغيير الثوري. في حين مال كبار رجال الدين الى الإصلاح الهادئ، فإن الخميني كان بين القِلّة الثورية، لكن ليس على طريقة اليساريين بالطبع. فهناك ما يدلّ على أن الخميني ومنذ مطالع الستينات من القرن الماضي، كان يريد إزالة الملكية، في حين لا يوافقه أحد من زملائه على ذلك. وهناك إشارات الى أنه كان يتصور إمكان قيام جمهورية إيران، لرجال الدين دور فيها مثل دورهم في ثورة عام 1906، من دون الإزعاجات التي أصابت بعض رجال الدين وقتها نتيجة الانقسام في ما بينهم (إعدام الشيخ فضل الله نوري). بيد أن التحوُّل عن الشاهنشاهية تبلور لدى المثقفين المتدينين ورجال الدين على حد سواء من طريق كتابات المثقف اليساري الليبرالي المعروف جلال آل أحمد، والتي بدأها في صورة استطلاعات عن بؤس الريف الإيراني، عشية إجراءات الشاه للإصلاح الزراعي في مطالع الستينات، ووصل بها الى الذروة النظرية في كتابه عام 1968: غرب زادكي (أي صدمة الغرب أو الإصابة بالغرب أو داء الغرب المُزمن). وما دانت تلك الكتابات (من جانب أبرز مثقفي إيران يومَها) الرأسمالية الاستهلاكية والاستغلالية على طريقة اليساريين وحسب، بل أضافت الى ذلك دعوة للعودة الى مواريث إيران التقليدية والروحية والإسلامية، سبيلاً للخروج من الوباء أو الطاعون الغربي الهاجم. ويمكن القول إنه منذ أواسط الستينات، وخارج حلقات كبار المراجع، كانت نخبة من كهول رجال الدين وشبابهم، ومن المثقفين المتجهين الى التدين والروحانيات، قد اندمجت في الحركات أو التوجهات الساعية الى التغيير. وباستثناء طالقاني، فإن عشرات من هؤلاء كانوا من تلامذة الخميني، أو من القريبين من حلقته. وما كان لدى غير الشيوعيين واليساريين الجدد منهم نموذج إيراني يسعون إليه. وإنما استندوا الى استطلاعات جلال آل أحمد، والكتابات المتذمِّرة المُشابهة، للاندفاع باتجاه التغيير الهادئ أو العنيف. فالطالقاني الذي ما شارك المُحافظين تخوفاتهم من استيلاء الشيوعيين على إيران من خلال مصدَّق، ظلَّ عميق الإيمان بسلطة الشعب، وكان يريد العودة إليها من خلال نظام ديموقراطي عادي، أو من خلال بناء مؤسسات وهيئات تضامنية تُشبه أُطروحات المجتمع المدني في ما بعد. بينما كان كلٌ من علي شريعتي ومطهَّري - كلٌ على طريقته - يسعى الى التجديد والنهوض الروحي، أي تجديد المذهب، والنهوض بالمجتمع. في حين انصرف كلٌ من خامنئي ورفسنجاني للاهتمام بتوجهات الإخوان المسلمين (وحزب الدعوة العراقي)، وقاما بترجمة كتب سيد قطب وغيره الى الفارسية. إنما كان الأبرز في التجاذب مع النظام - دونما القول بالثورة - مثقفون وسياسيون كثيرون من بقايا حركة مصدَّق، أهمهم مهدي بازركان، الذي صار رئيساً للوزراء بعد الثورة. وليست لبازركان أفكار معينة في دور الإسلام في إدارة الشأن العام، لكنه كان يؤكِّد عليه باعتباره مرجعية أخلاقية عليا على المستويين الفردي والعام.

إن الجديد الجديد في أُطروحة الخُميني التي عُرفت في أوساط ضيقة في مطلع السبعينات قوله بصيغة إسلامية بحتة لنظام الحكم عمادُها الفقيه المجتهد بحسب تقاليد المذهب الشيعي. وما أيدها أحد أو تصدى لها بالمعارضة في الأوساط العارفة وقتها إما لأنهم رأوها مفيدة في الدعوة الى التغيير الثوري أو لأنهم فهموها في شكل عام باعتبارها دعوة قوية لإعادة المرجعية في مسائل الدولة أيضاً الى حضن الإسلام. إنما هناك ما يدلُّ على أنه بعد الاحتفالات الإمبراطورية عام 1975، والتي اعتبرها رجال دين كثيرون، عودة الى الوثنية والثنوية القديمة، فإن الملكية (حتى الإصلاحية) قلّت حظوظها كثيراً في أوساطهم. ومنذ ذلك الحين - كما ذكر منتظري في ما بعد - أي حوالى عام 1977، بدأ منتظري وحده تقريباً، وكان في السجن، التنظير لولاية الفقيه صيغة لنظام الحكم، وعلى ثلاثة أسس: الخروج من الفكر الفقهي الشيعي التقليدي الذي ولَّد عقلية فِصامية لدى الجماعة الشيعية في العلاقة بالدولة والشأن العام على مدى التاريخ - والنظر في دولة الممكن وليس الدولة المهدية باعتبارها دولة تمهيد - ودفع الإسلام ورجالاته للعناية في شؤون الناس العامة وليس الفردية والخاصة فقط. وإذا تأملنا هذه العوامل أو المنطلقات الثلاثة، نجد أن الثاني منها هو الأوضح في رسالة الخميني في الحكومة وولاية الفقيه. وهذا العامل خاص بالمذهب الإمامي، ومتعلّق بالغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر، وهي إشكالية اعتقادية وفقهية كبيرة، لكنها خارج دوائر العلماء، لا تُهمُّ الجماعة بقدر ما يُهمُّها أن يتولى أُمورَها الخاصة والعامة مَن تثق به، وبخاصة إذا كان يقول ويعمل بصفته وكيلاً للإمام الغائب أو مُمهِّداً له. بيد أن الشيخ منتظري - ومن بعده الشيخ محمد مهدي شمس الدين - ما قَصَّرا في التدليل الى البند الثاني هذا، وإن اختلفت نتائج الاجتهاد. فالإمامة مُقدس، والأمة مقدَّس. وفي حالة عدم حضور المقدس الأول يحلّ محله المقدس الثاني عند شمس الدين، في حين يرى منتظري أن الفقيه في حال الغيبة تتوسع صلاحياته. والتوفيق بين الأمرين: الفقيه والأمة، يكون بأن تختار الأمة الفقيه. وهذا الذي كان منتظري يميل إليه كما يبدو في كتابه الكبير «بحوث في ولاية الفقيه»، لكن الخميني والفقهاء الآخرين ما وافقوه على ذلك، باعتبار أن الجمهور لا يستطيع التمييز بين المرشحين للمنصب من الفقهاء. وقد عرفنا إسهام منتظري في كتابة الدستور الذي صدر عام 1980، قبل أن نعرف بحوثَه المبسوطة في ولاية الفقيه، التي يبدو أنها كانت متداوَلة في أوساط رجال الدين منذ أواخر السبعينات.

وفي النهاية: ما الذي أدى الى فوز الثورة الإيرانية، ولماذا اختلف منتظري مع الإمام الخميني، ثم مع النظام؟ الثورة الشعبية على حكم الشاه هي التي أسقطت ذلك الحكم. والجمهور نفسه هو الذي آثر قيادة الخميني أثناء الثورة وبعدها. أما الدستور الإسلامي، دستور ولاية الفقيه في نطاق المذهب الشيعي، فهو مسألة تنظيمية من جهة، ومسألة إيرانية من جهة ثانية. فالنُخَب الإيرانية اعتادت منذ أقدم العصور على «النص المكتوب». وعندما كنت أترجم كتاب روي متحدة: «بردة النبي، الدين والسياسة في إيران»، لاحظت تشديد الكاتب على أهمية الدستور - وهي كلمة إيرانية - في نفسية الإيرانيين وثقافتهم. وما استطاع الشاه رضا وابنه محمد علي تعديل دستور عام 1906 ولا إلغاءه، لكنهما تجاهلا تطبيقه. ولا شك في أن صياغة دستور عام 1980 أدخلت جديداً كثيراً وبخاصة في رؤية ماهية السلطة والدولة وموقع المرشد. لكن في الجوانب التنظيمية بقي الكثير من دستور عام 1906. بيد أن التغيّر الثقافي الهائل الذي يشير إليه دستور الثورة الإسلامية، ما كان قصراً على إيران، بل شمل العالم الإسلامي كله، وإلا فكيف نفهم رؤية الحاكمية لدى إسلاميي السُنّة، الذين قادهم أبو الأعلى المودودي (زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان)، والإخوان المسلمون (في المجال العربي). وقد عقدتُ في كتابي: «سياسيات الإسلام المعاصر» (1997) مقارنة بين تجربتي إيران ومصر على مدى القرن العشرين، في محاولة لقراءة التحولات في البلدين المسلمَين الكبيرين.

ولخلاف منتظري أخيراً مع الإمام الخميني ثم مع النظام، عِلَل وخلفيات بعضها خاص بالتطورات بين 1986 و1989 (وفاة الإمام الخميني)، وبعضها عام. ومن الخاص جَزَع منتظري من الأساليب التي انتهجها النظام الإسلامي لتثبيت حُكم رجال الدين، والتي تُشبه تصرفات الأنظمة الثورية في العالم الثالث خلال الحرب الباردة. ولأن الصراع كان عنيفاً، فقد ذكر خصوم منتظري لذلك الخلاف أسباباً تتعلق بمحاولات منتظري حماية أقارب وأنصار من «الخَوَنة» والفاسدين. لكنه ومنذ تحرر من أعباء خلافة المُرشد، والمشاركة في السلطة، فإنه برز باعتباره قطباً ليبرالياً بحجج فقهية تشبه حجج الشيخ شمس الدين في الدولة المدنية والتعددية وحكم القانون، فتلغي أكثر مفاعيل ولاية الفقيه التي كان من أشد أنصارها حماسة بين أواسط السبعينات وأواسط الثمانينات من القرن الماضي. وقد ذكر لي أحد أشد أنصاره حماسة اليوم، وأشد خصومه ضراوة بالأمس أنه ظلَّ مُصرّاً على أن الوليّ الفقيه من وجهة نظره، ينبغي أن يبقى رمزاً موحِّداً، مثل ملكة الإنكليز وليس أكثر! وقد عبّر في السنوات الأخيرة من حياته، عندما خرج من الإقامة الجبرية، وصارت تصريحاته أكثر تداولاً، عن خشيته من أن تتحول ولاية الفقيه الى عبء على الإسلام وعلى إيران. وعندما قال له الشخص الذي ذكرته سابقاً إن الشيعة والإسلاميين خارج إيران لا يشاركونه هذا الرأي، لأن الدولة الإسلامية الإيرانية صارت أكثر تأثيراً، وكذلك المؤسسة الدينية، أجاب منتظري بصوت خافت: لكن الإخوان في الخارج لا يعرفون حراس الثورة ولا الباسيج، وما أدراك ما هما!

رضوان السيد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...