المسيحيّون: 4 مسؤوليات وكارثة

28-09-2013

المسيحيّون: 4 مسؤوليات وكارثة

لا يمرّ يوم من دون كلام عن قضية مسيحيي الشرق، أو مسألة الأقليّات، خصوصاً بعد استعار الأزمات المتولّدة مما سمّّي الربيع العربي. والقضية المقصودة مركّبة متشعبة ومعقدة، وهي أصلاً مزمنة. لم تولد مع انهيار أنظمة التسلطة العربي، ولن تنتهي طبعاً مع ثوارها. فهي قضية وجود بشري جسدي مادي أولاً. وجود يضمحل بفعل عوامل الهجرة القسرية والتهجير العنفي، كما بفعل عوامل اقتصادية (فرص العمل ومستويات التنمية) وديمغرافية (نسب الزيادة السكانية بين جماعة وأخرى) وثقافية (ظاهرة «تغريب» المسيحيين و«تغربهم»، وبالتالي سهولة انجذابهم إلى القسم الآخر من هذه الأرض)...

ثم هي قضية علّة وجود للجماعات المسيحية، حيث لا تزال موجودة. ليست مسألة دور، بل مسألة رسالة. والفارق بين الاثنين معلوم معلن. الدور يعطيه لك الآخر. الرسالة تعطيها لك هويتك وذاتيتك وماهيتك. الدور يتغير مع حاجات الآخرين أو حتى رغباتهم أو أمزجتهم أو نزواتهم. الرسالة ثابتة ثبات الثابت في تحديد شخصيتك الفردية والجماعية والقاعدية والاتنية. غير أن الوجود والرسالة متكاملان. الوجود يحتاج إليك ليكون. الرسالة تقتضي وجود الآخر لتكون. وفي تزاوج الاثنين، أنت والآخر، بوجودك ورسالتك، يكون الحضور... وكل هذا في خطر اليوم.
ما هي أسباب الخطر المحدق بالمسيحيين في المشرق؟ قد تكون أربعة أساسية.
أولاً إسرائيل. هذا الكيان الأحادي المذهب، حتى العنصرية، يتناقض في جوهره مع أن يكون ثمة مسيحيون في المنطقة. والتفسيرات كثيرة، من التاريخ إلى الجغرافيا، ومن الاقتصاد والثقافة إلى الجيواستراتيجيا والسيكولوجيا الاجتماعية. باختصار، تصوّر نفسك صهيونياً، حلمك الطبيعي أن تتفجّر المنطقة كيانات مذهبية، لا عامل تخفيف صدمات فيها، مثل مسيحييها. وأن تنقسم بين معسكرين متحاربين حتى آخر رأس، سنة وشيعة، فتبرر أكثر فأكثر صهيونيتك وكيانيتك وعنصريتك. تصير المعادلة حتى في المنطق التبسيطي سهلة: هناك دول سنيّة مرجعيتها الدينية التيوقراطية محيط مكة، وهناك دول شيعية مرجعيتها التيوقراطية المقابلة «ولاية فقيه قم». يبقى أن تكون وأن تقوم وأن تتأبد في المقابل دولة يهودية، مرجعيتها الدينية التيوقراطية... أورشليم القدس نفسها وكلها لا غير.
ثانياً، ثمة مجموعة من أسباب الخطر مرتبطة بسياسات الغرب وسلوكياته. هي أسباب منبثقة من تلك السكيزوفرينيا المتبادلة والمزدوجة التي يعيشها حكام الغرب من جهة، ومسيحيو الشرق من جهة أخرى، في نظرتيهما إلى بعضهما وعلاقاتهما ببعضهما. مسيحيو المشرق ينظرون إلى الغرب على أنه مسيحي، وعلى أنه حام لهم في أرضهم في الحد الأدنى، وملجأ لهم في هربهم في الحد الأقصى، فيما حكومات الغرب ومنطقه السياسي المركزي، تنظر إلى مسيحيي المشرق على أنهم عقبة في وجه المصالح الغربية الاقتصادية مع العالم الاسلامي، وإزعاج دائم للعلاقة الثنائية الثابتة بين الغرب وإسرائيل. المسيحيون المشرقيون يريدون من الحكومات الغربية أن تعادي المسلمين من أجلهم، أو أن تتعامل معهم كما تتعامل مع إسرائيل، فيما حكومات الغرب تتمنى لو أن مسيحيي الشرق يختفون، فلا يزعجونها في مقاربتها المسلمين، ولا يطالبونها بوضعية اليهود... من هذا التناقض المزدوج ولدت مأساة في العلاقة لم تبدأ مع الاستشراق، ولن تنتهي مع التغرب. تبقى مجموعة ثالثة من الأسباب، تلك المرتبطة بالمسيحيين المشرقيين أنفسهم. أسباب هي أيضاً في ذاتها مركبة ومعقدة جداً. يكفي أن تلاحظ أن مسيحيي المنطقة لم يحلّوا عبر تاريخهم إشكاليات ثلاثاً، أقله منهجياً. فهم لم يتفقوا يوماً على تشخيص قضيتهم أولاً. وفي حال توافق قسم منهم على تشخيص واحد، لم يتفقوا يوماً على حل واحد لهذا التشخيص ثانياً. واستطراداً، حتى لو أن البعض القليل منهم نجح في التشخيص واكتشاف الحل، فهو لم يحسن تنفيذه وتجسيده في أرض الواقع، ولم يبدأ الخطوة الأولى حتى في طريق تجميع المقدرات والإمكانات اللازمة لذلك التجسيد والتنفيذ. أمضى مسيحيو المشرق تاريخهم الحديث والمعاصر كأنهم ليلة سقوط القسطنطينية. يختلفون حتى الموت، ولا يلتقون إلا في قداس مشحته الأخيرة. حتى اليوم يبدو انقسامهم هذا مدوّياً، بين من يرى في ما سمي الربيع العربي فرصة لتجديد ذمية قديمة، على طريقة فليحكم أي كان، و«نحن قادرون وقابلون للعيش في ظل أي نظام»، وبين من رأى في التطورات نفسها موجة تكفيرية شاملة نهائية أبدية لا غير، ولا وسيلة لصدّها إلا دخول القلعة المذهبية، أو نسج تحالف الأقليات المهددة، علماً بأن بين الطرفين سهلاً فسيحاً من الخيارات، في مقاربة ما يتطور ويتغير حولنا.
لكن تبقى مسؤولية الإسلام والمسلمين مسؤولية كبيرة، وقد تكون كبرى. مسؤولية يتجنبها كثيرون، ويهمس بها قليلون. مسؤولية تبدأ في النصوص، ولا تنتهي في النفوس. جذورها في تاريخ ليس ناصع البياض، إرهاصاتها في مستقبل أسود، إذا استمرت الذهنيات والسلوكيات على ما هي. هي مسؤولية الفكر المركزي الإسلامي في أن يتصالح مع الإنسان الفرد، مع حقوق مسلماته، ومع حقوقه الطبيعية الأصيلة غير القابلة للنزع أو التصرف أو التنازل أو التكيّف. من حرية الضمير، أي ضمير كان، وصولاً إلى حرية الفكر، حيثما ذهب الفكر.
مسألة بعيدة عن لبنان؟ بل هي لبنانية أولاً وأصلاً. أول حلها أن يجرؤ زعيم بيروتي على إدانة انفجار كنيسة باكستان، قبل أن يتحدث عن دستورية تشكيل الحكومة.

جان عزيز: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...