المسيحية المشرقية والانتفاضات العربية

08-10-2011

المسيحية المشرقية والانتفاضات العربية

في ظل تنامي السيناريوات حول مآلات الربيع العربي ونتائجه، يعود ملف الأقليات الدينية والإثنية الى الضوء في زمن التحولات العربية الراهنة؛ ولعل مفهوم الأقلية بحيثياته التاريخية وإرهاصاته المعاصرة يحتاج الى إعادة بناء على المستويين المعرفي والتاريخي، لأنه يجبرنا على معاينة أزمة العقل السياسي العربي من جهة وتعثرات بناء الدولة الحديثة من جهة أخرى.
مفهوم الأقلية يطرح بدوره فرضيات متداخلة، لعل أهمها سيطرة الأكثرية الدينية أو الاثنية على مفاصل القرار مقابل تهميش الآخر الديني أو الاثني، ما يضفي طابعاً سلطوياً يكرس جدلية الإقصاء والنبذ. ويبدو أن للأقليات في العالم العربي جاذبية مفرطة لدى المجتمع الدولي، إذ يحركها عامل أساسي يستمد منابعه من المسألة الشرقية التي تبلورت في بدايات القرن التاسع عشر.
منذ انفجار الانتفاضات العربية تحديداً في مصر وسورية تساءل الكثيرون عن مصائر مسيحيي الشرق وعن دورهم في الحراك الراهن، ورغم ما يبديه بعض المراقبون من هواجس حول الثمن الذي سيدفعه المسيحيون في كل من مصر وسورية في حال وصول الاسلامويين الى الحكم، لا بد من معالجة إشكالية هامة تتخطى أوهام الاسلاموفوبيا، فأين هو الدور النهضوي للمسيحيين المشرقيين اليوم؟ وهل هم مطالبون بإعادة صوغ رؤيتهم تجاه التحولات الراهنة؟ بصرف النظر عن النزف الديموغرافي المسيحي، وبصرف النظر عن الخلاصات التي يروج لها البعض حول أزمة المسيحية المشرقية مع محيطها الإسلامي الأوسع، لا شك أن الغرب يتحمل المسؤولية الكبرى في إفراغ الشرق من المسيحيين، لكن الأهم من ذلك أن جزءاً لا بأس به من مسيحيي المشرق يفتقدون للممانعة بمدلولها الوجودي، والأخطر من كل هذا أنهم بدلا من أن يمارسوا دور الوسيط في الجمع بين أطراف التعدد يتسلحون بجاذبية الهم الأقلوي كما لو أنهم ليسوا أحد أبرز مكوّنات النسيج المجتمعي والسياسي.
أزمة المسيحية المشرقية؛ أزمة مع الذات ومع الآخر، وهي نتاج غياب الدولة الحديثة، وسيطرة الأنظمة التسلطية، وليست نتاج الإسلام نفسه. وصحيح أن المسيحيين تعرضوا في مراحل تاريخية معينة الى الاضطهاد، لكن هذا الاضطهاد عززه المعطى السياسي لا الديني. وإذا عدنا الى النص القرآني نجد أن نصه تعددي، مفتوح على التأويلات، وغالباً ما يستشهد البعض بالآية 29 من سورة التوبة (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) للتدليل على العنف الكامن في النصوص الإسلامية المقدسة تجاه النصارى واليهود، لكن لا بد من التأكيد أن الآيات القرآنية لا يمكن فصلها عن ثنائية الوحي والتاريخ، وعن أسباب النزول، وهذا لا ينفي أهمية شرح آيات أخرى بمنظور العلوم الإسلامية التطبيقية، خصوصاً ما ورد في سورة المائدة الآية 51 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
السؤال عن دور المسيحيين في الانتفاضات العربية ومدى تأييدهم لها، لا ينفصل عن العجز الذي تعاني منه الأنظمة منذ مرحلة الاستقلالات، فقد خلفت الدول التي تبنت التقدمية بإسم الايديولوجية الثورية شعوباً مستنزفة، طالت كافة الشرائح والطبقات، والنظام التسلطي يتحمل المسؤولية الكبرى في تهميش كل الأقليات، ومفهوم الأقليات لا يتخذ بالضرورة بعداً دينياً أو إثنياً، بل له منظومته السياسية والثقافية، وبهذا المعنى فإن عدم الاجماع على ادارة الحكم ومقاومة الاستبداد يؤديان الى خلق قنوات معارضة عابرة للديانات.
المسيحية المشرقية مطالبة اليوم باستعادة دورها النهضوي وتحديد موقفها من الانتفاضات العربية الراهنة بخطاب أوضح، وبالتالي الكفّ عن استنزاف جاذبية الأقليات والانخراط في رسم مستقبلها مع الآخر الديني والسياسي، وحتى الخوف من وصول الاسلاميين الى الحكم فيه الكثير من المبالغة، فالعديد من الحركات الاسلامية أجرت مراجعات نقدية جادة وما عادت تنادي بالحاكمية ولا تكفير الخصوم وتقسيم العالم الى دار الاسلام ودار الحرب، ومن بينها حركة الاخوان المسلمين في سورية، التي تتبنى مفاهيم تنتمي الى الحقل الدلالي السياسي الحديث، فقد بدأوا الترويج للديمقراطية والمجتمع المدني والتعددية والانتخابات الحرة والمواطنة، وكل هذه المصطلحات إن دلت على شيء، فعلى التحول النوعي في مزاج الإسلام الحركي، والتحول المشار اليه فرضته التجربة القاسية التي تعرض لها الاسلامويون منذ بداية السبعينيات. الى ذلك فإن تيارات الإسلام السياسي تدرك أنه ليس بمقدورها الاستمرار عبر تبني مقولات خارجة عن التاريخ، والاسلامويون يدركون عن كسب أنهم مطالبون بإجراء المزيد من التحديث على المستوى العقائدي، ولعلهم يتدرجون بإتجاه هذه الغاية، خصوصاً مع نجاح أنموذج الإسلام التركي.
ما الذي تريده المسيحية المشرقية من الانتفاضات العربية وأين هو موقعها؟ المسيحيون في المشرق العربي مطالبون بالدرجة الأول الى جانب الدور السياسي والنهضوي، بمعالجة مشاكل أبناء طائفتهم، للحد من الهجرة تجاه الغرب، خصوصاً أن الكنيسة تنزع نحو نمط من الرأسمالية وبرجوازية رجال الدين، وبدل تنميط الهواجس من الآخر الديني أو السياسي من الأجدى مساعدة الفئات المسيحية المهمشة اجتماعياً واقتصادياً، وحتى الغرب ما عاد ينظر الى أزمات الشرق الأوسط من موقع حماية الأقليات المسيحية كما كان سائداً في حقبة الاستعمار الكلاسيكي، بل من موقع المصالح والأدوار.
كيف يمكن للمسيحية المشرقية بناء عالم جديد على إيقاع الانتفاضات العربية؟ استعادة الدور النهضوي والخيار الوسطي قد يكونان الأنسب في حماية المسيحيين أنفسهم، وهم مدعوون بأن يكونوا أمة وسطاً مع سيطرة الحديث المتداول عن صراع سني/ شيعي _ ديني في الخارج وسياسي في العمق_ والأهم أن يكفوا عن توظيف جاذبية الأقليات لأن بحثهم عن الحرية خارج مجالهم الجغرافي والتاريخي، أي الغرب، دفعوا ثمنه كبقية المسلمين، ما يعني سقوط المقولات التي يروج لها البعض بأن المسيحية أكثر قدرة على استيعاب مفاهيم الديمقراطية والحرية مقابل الإسلام ذي الطابع الجوهراني. ولعل التجارب التاريخية التي شهدتها الحضارة الإسلامية تكشف عن مخزون حواري تجلى بشكل واضح في تجربة الأندلس التي ربما تعتبر أول أنموذج حضاري تاريخي كرس حوار الديانات.

ريتا فرج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...