الفقهاء أمناء الرسل

26-08-2007

الفقهاء أمناء الرسل

إن دراسة مبدأ ولاية الفقيه بات معبراً طبيعياً لكل من يريد معرفة سر نجاح الحكومة الاسلامية في ايران بزعامة الامام الخميني.
وبعدما كان البحث المدرسي والحوزوي يعنى من هذا المبدأ بدراسة ما له علاقة بشؤون الحسبة والأيتام والأوقاف العامة، أصبح اليوم يتصدر دائرة التفكير السياسي، بعدما حاز الفقيه سلطات واسعة في اتخاذ القرارات السياسية وإدارة الحكم بكل مستوياته.
وقبل أن نطلع على بعض ما استطاع الامام الخميني أن يدونه بهذا الشان نذكر هذه المقدمة التاريخية:
فمنذ غيبة الامام المهدي (ع) آخر أئمة المسلمين الشيعة، فإنه نادراً ما ذكرت لفظة الولاية بمعناها السياسي الحكومي. ولعل اول من نادى بولاية الفقيه ضمن معطياتها السياسية والاجتماعية تدبيرا وتنظيماً هو الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي الجزيني (720 – 784 هـ). غير أن الشهيد الجزيني لم يصرح بذلك علانية وإنما يمكن اقتناص مدركات هذا المبدأ من خلال كلماته في كتابه "اللمعة الدمشقية" في جملة من أبواب الفقه في العبادات والمعاملات في حين انه لو راجعنا ما كتبه شيخ الطائفة الطوسي وعلاّمتها الحلي، لا نجد ألفاظاً مثيلة عما هو مسطور في كتابات الشهيد الأول. وتستمر نظرية ولاية الفقيه بالبروز مع المحقق الكركي (870 –
940 هـ) وتصل الى لحظة مفصلية حين يحكم الشاه اسماعيل الصفوي ايران وفق هذه النظرية التي بلورها وأظهرها المحقق الكركي بصورة أجلى وأوضح.
وامامنا نص مهم عن تلك الحقب التاريخية يسطر فيه الشاه اسماعيل موقفه إزاء هذه النظرية إذ يقول:
"بسم الله الرحمن الرحيم
حيث انه يبدو ويتضح من الحديث الصحيح المنسوب الى الامام الصادق (ع) انظروا من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فارضوا به حكماً فإني قد جعلته حاكماً فإذا حكم بحكمنا فمن لم يقبل منه فإنما بحكم الله استخف وعلينا ردّه وهو رادّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله وواضح أن مخالفة حكم المجتهدين ووارث علوم سيد المرسلين ونائب الأئمة المعصومين (ع) لا زال كاسم العلي، علياً عالياً ولا يتابعه، فإنه محالة مردود وعن مهبط الملائكة مطرود وسيؤخذ بالتأديبات البليغة والتدبيرات العظيمة فهذا البيان يمثل أول خطاب سياسي مبنيّ على ولاية الفقيه، وللمرة الأولى ترد عبارة نائب الامام في غير كتاب من كتب الفقه".
والمعروف عند الشيعة ان نائب الامام قد اخذ حقيقته ومشروعيته من جملة من الروايات والنصوص القرآنية التي تجعل له صلاحية في الحكم والقيادة. منها هذه الرواية المنقولة عن رسول الله (ص) يقول فيها: "الفقهاء امناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله وما دخولهم في الدنيا؟ قال (ص): اتباع السلطان – اي الجائر – فاذا فعلوا فاحذروهم على دينكم.
ومنها رواية عمر بن حنظلة التي اشتهرت بالمقبولة وهي عندي صحيحة والنص كما ورد في وسائل الشيعة عن محمد بن يعقوب بن محمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن الحسين عن محمد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن داود بن الحسين عن عمر بن حنظلة قال: سألت ابا عبدالله عن رجلين من اصحابنا بينهما منازعة في دين او ميراث فتحاكما الى السلطان – غير العادل - والى القضاة، أيحل؟ قال:
من تحاكم اليهم في حق او باطل فانما تحاكم الى الطغوت وما يحكم له فانما يأخذ سحتاً وإن كان حقا ثابتا له لأنه اخذ بحكم الطاغوت وما امر الله ان يكفر به قال الله تعالى: "يريدون أن يتحاكموا الى الطاغوت وقد امروا ان يكفروا به "قلت كيف يصنعان؟ قال ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا فليرضوا به حكما فاني قد جعلته حاكما، فاذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فانما استخف بحكم الله وعلينا رد والرد علينا رادّ على الله وهو على حد الشرك بالله.
وهذه الرواية واضحة في كون الامام قد جعل الفقيه العادل العالم بالحلال والحرام والعارف بأحاديثهم حاكما.
ولكن وقع الخلاف بين المفسرين لهذه الرواية في سعة حاكمية الفقيه وهل للفقيه ما للامام من الحاكمية ام له بعض ما للامام في ذلك؟
بيد ان انتصار الثورة الاسلامية بقيادة الامام الخميني رضوان الله عليه مثّل قفزة نوعية في اطروحة ولاية الفقيه فلم تعد حينها العقيدة شأنا فرديا، ولا العبادات علاقة مع الله منعزلة عن القضايا الاجتماعية والسياسية. ولا الفقيه هو الذي يجلس في التكايا غير معني بما يدور حوله من احداث، وغير مستعد لخوض اي صراع مع غيلان السياسة.
فهذه الصورة عن طهرانية وزهد وورع الفقهاء، يجب ان يضاف اليها فعل ومشاركة وصنع للقرار ومواجهة لمن يريد الاسلام ذليلا مهانا هامشيا. فالاطروحة التي من أجلها جاهد الامام هي في اعادة الاسلام ليكون منهج حياة يغرف منه الناس تنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية، ويستمدون منه قوتهم في وجه الطغاة والمستعمرين.
لذلك لا بد من تنقية الفكر الديني من رواسب الزهد السلبي، ومن الحيادية والعزلة ليصبح قيمة مادية وثقافية وحضارية تصنع للأجيال حاضرها ومستقبلها.
واذا عدنا الى مواقف الإمام ضد الشاه فإننا نرى أنها بقدر ما اتسمت هذه المواقف بالشجاعة والجرأة والتحدي، فإنها كانت تهدف ايضاً الى التأكيد على أن علماء الدين في الأمة هم "خلفاء الرسل" و"حكاماً على الناس" و"ورثة الانبياء" و"حصون الاسلام". وان تقاعس العلماء وسكوتهم أشد ضرراً من تقاعس من سواهم.
وما من شك أن الإمام أراد للأمة، من خلال العلماء، أن ترتفع الى مستوى النضج والوعي والمسؤولية لتتصفى نهائياً كل مقومات الاستغلال والوان الظلم الانساني. وطبيعة الصراع ايضاً تستوجب انخراط علماء الدين في الواجب الثوري وانحيازهم الى المستضعفين لإصلاح الاوضاع القائمة على استبداد الحكام واستغلال المستعمرين.
وكان تخوف الإمام شديداً من أن بقاء العلماء في حال العزلة قد يشكل مبرراً للاجيال المقبلة من تقبل اعمال الظلمة. ما قد ينظرون لهذا الامر على كونه حجة فيلجأون للصمت والسكوت باعتبار أن العلماء أنفسهم يمضون هذا الواقع.
وعندما يقف الإمام عند عبارات مثل الفقهاء "أمناء الرسل" وكون "مجاري الامور والاحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه"، فإنه يريد أن يحدد وظيفة الفقيه ومسؤولياته وصلاحياته في الاجتماع الاسلامي، وأن دوره الخطير يتعدى موضوعات كالحسبة وولاية القصّر الى بناء الدولة الاسلامية التي هي في الاساس ظاهرة اجتماعية أصيلة عمل لها الانبياء والرسل في سبيل تحقيق تنظيم اجتماعي قائم على الحق والعدل، وان وظيفة الفقهاء الاستمرار في هذه المسيرة والعمل على تجسيد وتطبيق أهداف الانبياء وقيادة المجتمع نحو الهداية الالهية.
ويظهر أن سخط الإمام العارم على كثير من علماء الدين كما نجده في كتابه "الحكومة الاسلامية" ناشئ من جهلهم أن الحفاظ على الدين والعقيدة والقرآن لا يتم من خلال استجرار المذاكرة في هذه الموضوعات دون أن يكون هناك أثر فعلي ونتاج حقيقي على أرض الواقع. فهو عندما يفسر حديث الإمام الثاني عشر، الذي يقول فيه: "أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". فإنه يعتبر أن المقصود بالحوادث الواقعة ليس المسائل الشرعية بل المقصود من ذلك هو الاحكام المستجدة. أي الحوادث الاجتماعية والسياسية الطارئة والمشاكل التي تواجه المسلمين. وعندما يدعو الناس الى الرجوع الى الفقهاء فلأنهم حجة كما هو حجة. فإنه يريد أن يقول إن للفقيه من الحجية ما للإمام في ذلك في كل القضايا، العام منها والخاص، الاجتماعية والسياسية.
فإذاً مهمة الفقيه، بحسب فهم الإمام الخميني، تتجاوز ما تعارف عليه الفقهاء، وصلاحياته وسلطاته تتعدى ما اعتادوا عليه. فللفقيه كل ما للإمام من الحجية لأنه منصوب من قبله وولايته عامة على الناس جميعاً.
ويتأسس من ذلك أن الفقيه عليه أن يعمل لاقامة الدولة الاسلامية وادارة أمور المسلمين وأخذ الواردات العامة وصرفها في وجوهها المعروفة. ولهذا يتحرك الإمام فكرياً (ولاية الفقيه) وسياسياً (تحركات شعبية وانشطة تعبوية) ليؤكد أن مبدأ ولاية الفقيه هو اكمال لأهداف الانبياء والأئمة (ع) وأنه ليس شيئاً نكراً يقوم به خلافاً للمعتقد والسيرة، بل هو من صلب العقيدة وجوهر الرسالة.
فبعد تنقيح المطالب سنداً ودلالة وبعد فهم مقاصد الاحكام العبادية وقراءة الاسلام قراءة واعية وشاملة وتشخيص المصالح العليا للناس لا يجد الإمام إلا ان يدعو الى تجسيد مبدأ ولاية الفقيه عملياً لأن الفقهاء كما يقول: "مكلفون بالعمل الجدي لأجل اقامة حكومة اسلامية".
ومن هنا يتضح أن الفقهاء مؤتمنون على تراث الانبياء ومطالبون بتنفيذ أهدافهم وتجسيد سيرتهم عبر اقامة الحكومة الاسلامية التي تضمن مراعاة مصالح الناس وحقوقهم.

الشيخ عفيف النابلسي

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...