إشكاليات النهضة ومعوقاتها

30-03-2008

إشكاليات النهضة ومعوقاتها

يعتبر سؤال النهضة من أهم الأسئلة المطروحة على الفكر العربي الراهن، على رغم مرور أكثر من قرن ونصف القرن على اعتبار الباحثين عصر محمد علي باشا بداية نهوض عربي، ونظروا إليه بصفته باعثاً للشعور القومي، واتخذوا من حملته على بلاد الشام محرضاً وأملاً في عودة العرب إلى المساهمة في صناعة التاريخ الإنساني والعالمي، من دون أي تدقيق في شخصيته وجذوره وأصوله.

ويعتبر عبد الغفار نصر في كتابه «إشكاليات النهضة ومعوقاتها» (دار رام – دمشق 2007) أن العصبية القبلية هي من بين الأسباب الأكثر جدية لمسألة الإخفاق النهضوي العربي، متخذاً من العهد المرواني عينة نموذجية على التعصب القبلي، وكيف استخدم خلفاء بني أمية والولاة وقادة الجند القبائل وضربها ببعضها بعضاً لتثبيت المُلك والسلطان. فإذا كان عبدالملك قد قرّب القيسية وانتقم من اليمينة، فإن خليفته - وهو الوليد - قد فعل عكس سياسة أبيه، فاكتسب الخلفاء الأمويون كره أبناء العمومة تحقيقاً لأهداف الشعوب المنضوية تحت حكمهم. ثم ينتقل المؤلف إلى محمد علي باشا، ليجد أن نيته كانت تتجسد في إقامة دولة مملوكية أداتها عناصر أجنبية من غير العرب، ولم يكن العرب آنذاك يدركون تلك النيات بسبب ضعف ثقافتهم أولاً، وضعف العروبة الموروث تاريخياً منذ مئات السنين ثانياً، حيث انكفأت مفاهيمهم وانحسرت في إطار الانتماءات الدينية والطائفية والعصبيات القبلية. وقد تمكن محمد علي نتيجة هذا العقم الحضاري في كل مقوماته من السيطرة على عناصر القوة في المجتمع المتمثلة بعلماء الأزهر ومشايخه، حيث فهم هؤلاء الأمة ومقوماتها القومية والحضارية من خلال فهمهم للتاريخ الإسلامي في عصور الانحطاط والضعف. وفي كل الأحوال لم يكن حكمه لا في مصر ولا في بلاد الشام ينسجم والأعراف والتقاليد العربية، ولم يكن على مستوى من المعرفة في أحوال السكان، لذلك كان إحداث التغييرات، وطرح العادات والتقاليد والاستعجال في فرض الضرائب، شأن كل دولة في طور نشوئها من دون أن يتقرب من الشعب كما فعل في بلاد الشام، ولو فعل كما كانت تجري عليه سياسة إنكلترا وكل أمة مرتقية لكانت المسألة قد تغيرت.

وعند استقرائه عصر النهضة، وما جاء به روّاده، يجد أنهم حققوا تصوراً شمولياً على الأقل، من حيث رؤيتهم للفكر شرطاً ضرورياً لتحقيق النهضة العربية، عندما ربطوا التحرر من سيطرة الأجنبي بالوحدة العربية، والتقدم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وكان أولئك النهضويون، إما سلفويين، أو ليبراليين، والأقلية غير الفاعلة منهم كانت علمانية. وكانوا جميعاً في هذا المنظور أو ذاك ينتقدون الواقع، ويطالبون بنهضة عربية، فألحوا على الفكر والوعي الشمولي للحال الراهنة، وجميع أولئك الرواد طرحوا مسألة العقل، ورفضوا الاستسلام للواقع، كل من منظوره، فانتقدوا ورفضوا واعتبروا الرفض كافياً.

وكانت تلك مسألة خطيرة وصعبة في آن، فهم لم يدركوا أن سلاح النقد يجب أن يسبقه نقد السلاح، فأغفلوا نقد السلاح، أي «العقل»، وتصوروا النهضة وخططوا لها وناضلوا من أجلها بعقول أعدت للماضي أو بمفاهيم أنتجها الحاضر أيضاً آنذاك، وبصورة أوضح أرادوا التراث بماضويته وتاريخيته، فكان نتاجاً انفعالياً من خلال حاضر تعرفوا إليه من دون فهمه واستيعاب مقومات نجاحه، هو الحاضر الغربي من خلال حملة نابليون على مصر والشرق العربي.

ويرى المؤلف أننا ومنذ ذلك التاريخ ونحن نجترّ طرح القضايا النهضوية. لكننا ما زلنا نعيش هاجس الخوف والحذر. وهو الخوف من النهج السلفي الإسلامي الذي يطرح نموذجاً نهضوياً جاهزاً منذ القدم. والنهضة التي بدأت منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى اليوم، تميزت، ومرّت في مراحل، ومحاور، من دون أن تقترب مراحلها وثوابتها. فالقعود الخمسة الثانية من القرن التاسع عشر أعلنت وكافحت من أجل إصلاح الوضع التركي العثماني، لرأب الصدع الذي حصل في الخلافة، من دون الانفصال عن الدولة العثمانية باسم الخلافة الإسلامية، ويمثلها نموذجياً جمال الدين الأفغاني، واتجاه آخر أعلن الرفض وطرح العروبة «عبدالرحمن الكواكبي وأديب إسحاق»، ولكن لم يتمكن هذا الاتجاه أيضاً من طرح أيديولوجيا أو دراسة تحليلية بنيوية للمجتمع العربي المهزوم سياسياً والمتخلف اجتماعياً واقتصادياً، إنما كان يهدف الى التحرر من الأتراك في أي شكل حتى قيل في الجو الحماسي: «سلام على كفر يوحد بيننا»، ذلك هو التعبير عن الحال الراهنة آنذاك.

ويحدد المؤلف خمس مسائل ما زالت تعمل على إعاقة النهوض العربي قومياً وحضارياً، أولاها أن الصراع الذي شهدته الأمة العربية، منذ منتصف القرن التاسع عشر وما يسمى بعصر محمد علي، كان صراعاً مبعثراً قطرياً، إذ تمكنت الدولة العثمانية بواسطة والي مصر محمد علي من إجهاض الحركة الوهابية، وسمحت هذه الدولة للاستعمار الغربي بالإجهاز على الشمال الأفريقي، وسواحل البحر العربي. فالصراع سواء كان ضد الدولة العثمانية أو ضد الغرب، اتخذ شكلاً آخر. ضد الغرب سياسياً ومعه أيديولوجياً، بمعنى أننا قاتلنا ضد التوسع الاستعماري، من أجل التحرر وقيمه الليبرالية. والثانية أن الاحتكاك مع الغرب في شكله التصادمي كان يهدف إلى نهضة عربية تنتمي إلى المستقبل إذا ما تابعنا دراسة كل من الكواكبي، وعلي عبدالرزاق، وطه حسين، على رغم أن هذا الأخير خفت صوته في مراحل الصراع القومي. والثالثة أن الفرقاء الذين نظروا إلى القيم الغربية لم يجدوا فيها طريقاً للخلاص من الانحطاط العثماني على مستوى الوعي النهضوي. فالهاشميون طلبوا معونة الغرب، وتحالفوا معه ولا يزالون من دون أن يدركوا طموحات الغرب في أرض العرب كلها مثلاً كالمشروع الصهيوني. والرابعة هي الانقسامات في الذهنية العربية مع الغرب، أو ضده، مع العثمانية، أو ضدها، مع العودة إلى الأصول، أو ضد الأصولية. والفكر القومي، وحركة القومية العربية، كلها، لم تكن نتاج وعي جماهيري بما تؤول إليه حال العرب المتأخرة جداً عن الغرب، لذلك كان إدراكهم خطر الصهيونية وطموحات الغرب ضعيفاً وضحلاً. حتى نهاية القرن العشرين كان العرب يؤمنون بأن الصهيونية تقبل السلام في حدود الأرض التي اغتصبتها. وخامس هذه المسائل هو اقتران هو اقترن الوعي الطائفي بالوعي النهضوي. فللطائفية حضورها في التاريخ العربي، ولها تراثها وأصولها، وجسّد هذا الحضور الصراع من أجل الأصول، وليس ضد الأجنبي، وحصل هذا عندما انكفأت الطائفية وتقوقعت على ذاتها.

ويعتبر المؤلف أن العلمنة هي الحل الأنجح لمجتمعاتنا التي تعاني الانقسامات العمودية والأفقية، حيث تتأسس العلمنة على العقل والقوانين. وهي ليست مسألة مسيحية، أي يقبل بها المسيحيون ويرفضها المسلمون، بل تتعلق بتطور المجتمعات، وحاجة الشعوب التي تعاني تعددية مذهبية ودينية إلى دولة مدنية، قائمة على تشريع مدني حقوقي، يضع كل أطياف المجتمع أمام القانون بالتساوي.

عمر كوش

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...