أنسي الحاج: جماليّات (3) | مــــا دام هنــــاك مـــــرآة

05-03-2011

أنسي الحاج: جماليّات (3) | مــــا دام هنــــاك مـــــرآة

الصلة بين الوديعة الموهوبة وحاملها كالصلة بين الينبوع وغلافه الترابي. موسيقى موزار أثيريّة وإنْ لم يكن أماديوس أثيريّاً. «فاوست» أعظم من غوتّه. روائع ميكل أنج كاملة وهو ككلّ البشر. داود النبي متهتّك غَسَله شعرُ التوبة. لعلّ نزار قبّاني لم يحبّ امرأةً فوق حبّه لنفسه ويقرأه العشّاق بنَهَم كأنّه هم وكأنّهم هو: نرجسيّة الشاعر حين تشفّ فيتمثّل فيها شعور الآخرين.
النرجسيّة جزءٌ لا يتجزّأ من الخلّاق، بل من كل شاعر وفنّان مهما تواضعت درجته، لا بل من كلّ إنسان، حتّى ذلك المندفع في خدمة البشريّة. إنّ ما يُغيظ هو نوعيّة النرجسيّة وأسلوبها، لا وجودها. محبّة الآخرين تبدأ بمحبّة الذات، كما يقال. المهمّ هو أوّلاً طويّة هذه النرجسيّة وثانياً مسيرتها. هل أشدّ حدّةً من نرجسيّة المتنبّي؟ امرئ القيس؟ جبران، سعيد عقل، توفيق الحكيم، عمر ابو ريشة، الياس أبو شبكة، توفيق يوسف عوّاد، فؤاد سليمان، سعيد تقي الدين، أدونيس، توفيق صايغ، محمود درويش؟ تربض الأنا كوكباً مشعّاً ينظر إلى ما يحيط به، المرئيّ والمستور، نظرةَ الأسدِ إلى الفرائس المحتملة. القدّيسون أنفسهم نرجسيّون. أوغسطينوس، يوحنّا فم الذهب، توما الإكويني. المتصوّفة: الحلّاج ليس وحده المتألّه بل ربّما هو بينهم وحده الفاضح البريء. وهؤلاء الأديبات الاقتحاميّات مي زيادة، نازك الملائكة، غادة السمّان، كوليت الخوري، ليلى بعلبكي، هدى النعماني، حنان الشيخ، علوية صبح، سلوى النعيمي، رشا الأمير، مرام المصري، هدى بركات، جمانة حدّاد، سمر يزبك، رجاء بن سلامة، عالية ممدوح، وغيرهنّ وغيرهنّ، أكبر سورٍ اجتزنه ليس المجتمع بل ذاتهنّ، دخلنَ إليها يحطّمنَ أسوارها كما دخل الثوّار الفرنسيّون إلى سجن الباستيل وأباحوا عتماته للنهار.
■ ■ ■
الاختلاف بين نرجسيّ وآخر يبدأ من كيفيّة التعامل مع الأنا. تدليلها؟ عبادتها؟ الغرق في خداعها؟ طَرْقها بالنار؟ مصارعتها؟ تمزيقها؟ الاستسلام لجنونها؟ تنفيس احتقانها بالتقسيط أو تكديسه لتفجيره كبركان؟ التخابث وراءها؟ الرياء والتقنُّع؟ الخجل بها؟
يقول بودلير: «بين تحويل الأنا إلى بخار والتركيز عليها قطبَ رحى: هنا كلّ شيء».
لم يَدُرْ بودلير إلّا حول نفسه. هو الكرة الأرضيّة وهو الشمس. مع هذا لا تُحْتَرم أنا كما تُحترم أناه، كما يُخْشَع لوحشيّتها وانكسارها، لرؤاها وصرخاتها. «عاش حياته أمام مرآة»، ناطقاً هكذا، وفي بلاغة الأنبياء، بحياة الملايين من البشر. عاش حياته أمام مرآة، وعبقريّتُه حوّلت مرآته الصغيرة إلى مرايا للآخرين. أنا كهذه كفّارة وفادية، بفضلها يُشتهى العذاب. إنّها أنا الشعر الكبرى، بأصنامها المخيفة وحرائقها المطهِّرة ورمادها المضيء.
■ ■ ■
لم نخرج من تحت قبّة الجمال. لا يُفارَق. اليقظة تجول بحثاً عنه والنوم ينام على رجاء أحضانه.
■ ■ ■
أؤمن بالموهبة التي في الإنسان أكثر ممّا أؤمن بالإنسان. ازدواجيّة البَشَريّ والإلهيّ تنكشف فاضحةً عند الموهوب والعبقريّ. أهذا نفسه صاحب هذه السمفونيا!؟ كاتب هذا الشعر!؟ واضع هذه الصلوات!؟ هو نفسه وليس هو نفسه. الطبيعتان. الموهبة، العبقريّة، وديعة. قد يعرف ذو الوديعة مراحل تتّحد فيها طبيعتاه في واحدة، هي في الأغلب مراحل التهيئة ثم العطاء ثم الذروة في العطاء، خَلْقاً كان أو أداءً. الانصهار التام بين الطبيعتين شبه محال.
أسمى ما في الإنسان، الوديعة. أجلُّ أنواعها الوديعة الخارقة. يقاس المؤتمن على الوديعة بمدى تفانيه في التزامها وفي «إيصالها».
أؤمن بأخلاقيّة الموهبة أكثر ممّا أؤمن بأخلاق الموهوب.
■ ■ ■
المصدر الذي، في الخلّاق، يعطينا الجمال، ليس جزءاً من جمال تلقائي صارخ في الخلّاق بل من هاجس بالجمال يسكنه. هاجس شبه مستقلّ. رُبَّ فنّان بخيل ماديّاً ومعطاء بفنّه حتى ليصبح عطاؤه لا جمالاً خلّاباً فحسب بل خيراً مدراراً. الأمثلة لا تنقص. كان فكتور هوغو بخيلاً. يقال المتنبّي كذلك. لم يُعرف السخاء عن محمد عبد الوهاب ولا أحد يتحدّث عن كَرَم أُمّ كلثوم. من الصعب أن يكون الجاحظ قد برع في تصوير البخلاء لو لم يعش البخل. كذلك موليير. إجمالاً لا يعرف الشعراء والفنّانون الموقف الوَسَط، فإمّا البخل وإمّا التبذير. ومع هذا يَسْخون بالعطاء الآخر. الازدواجيّة سائدة هنا أيضاً. بل أبعد: المثُليّ يكتب أو يلحّن أجمل ما وُضع في غناء المرأة: أبو نواس، رمبو، فرلين، بروست، تشايكوفسكي، أندريه جيد، أراغون، فلان وفلان. ليس في هذا زَيف، إطلاقاً، بل السبب هو الصورة التي تنبع من ذلك المصدر شبه المستقلّ عن باقي شخصيّة الخلّاق: طيفٌ مُتَخيَّل عن الجمال، عن المنتهى، وتوقٌ مُبْهَم إلى التقاطه، توقٌ لا جنسَ له. كأنّ هذا التوق ينبع من التوق ذاته. روسّو داعية المثاليّة المتفجّع على الفضيلة، وضع كتاباً في أصول التربية... بعدما تخلّى عن أولاده. ريلكه غاية الإحساس كان غاية اللامبالاة إلّا بنفسه. كلوديل الأنانية والماديّة والمظاهر كَتَبَ السموّ والجوع إلى اللّه. بيتهوفن «العسكري» هو نفسه بيتهوفن الأرقّ من بلبل. بودلير شاعر الكوابيس هو نفسه شاعر الغصّة الملائكيّة. سرفانتيس بدأ «دون كيشوت» كمهزلة وأنهاه أسطورةً في الطِيبة.
... فؤاد حبيش أسّس «المكشوف» منتصف الثلاثينات من القرن الماضي جريدة شبه إباحيّة ولم تعتم حتى أصبحت خليّة لأبرز نهضة أدبيّة عرفها لبنان بين الحربين. فؤاد حدّاد الساخر الوجودي الذي لم يدس نملة انتهى قتلاً ومرميّاً في بئر شهيد وطنيّته. سعيد عقل أطلّ بالأساطير والأحلام وتحوّل إلى زعيم مقاتل. سعيد تقي الدين المستهزئ اللاذع انضوى تحت لواء الحزب القومي بعصبيّة مستميتة. نجيب محفوظ الذي هو نجيب محفوظ لم يقبل في ختام حياته بإعادة نشر «أبناء حارتنا» إلّا بعد الحصول على رضى الأزهر. طه حسين عدّل كتابه «في الشعر الجاهلي» وتناسى أطروحته التشكيكيّة. ازدواجيّة مرغمة، ولكن ما الفرق؟ الفرق أنّ ازدواجيّة العربي ازدواجيّتان: الازدواجيّة المخلوقة التي جاء حديثها سابقاً ـــــ وهي ازدواجيّة طبيعيّة بين الواقع والمثال ـــــ وازدواجيّة مكتسبة هي الفصام بين ما نعتقده وما نقوله، وغالباً ما تكون هذه نتيجة الخوف من السلطة، السياسيّة ـــــ البوليسيّة أو الدينيّة التكفيريّة، فضلاً عن الأعراف والتقاليد، فضلاً عن هاجس إرضاء الأكثريّة. تصير المراعاة قاعدة وتُفْرَغ كلمة «حقيقة» من فحواها. يمسي الكلام طنيناً أو زخرفة. تموت اللغة ويموت شعبها.
لا مكان لشخص مثل الرازي اليوم ولا للمعرّي. لا مكان حتّى لدون كيشوت عربي فلم يعد الأعداء طواحين ولا مقاتلتها رمزيّة. دون كيشوت العربي يُقتَل، ويُصْلَب الأقلّ كثيراً من الحلّاج. قبل أسابيع كنتُ أشاهد على شاشة «العربيّة» مقابلة مع فنّانين عراقيين يعربون عن خشيتهم من زوال مسرحهم الفولكلوري. الفولكلوري، لا العبثي أو الحديث. الفولكلوري. لماذا؟ لأنّ الإسلاميّين يرون فيه خطراً على الأخلاق! هل يبقى مجال في مجتمعات يتهدّدها الاختناق، للبحث عن الجمال؟ وهل يتجزّأ الجمال عن الحقّ والخير؟ وهل تتنفَّس هذه الثلاثيّة بغير الحريّة؟
■ ■ ■
خفنا وسوف نخاف، لكنّ للإنسان غالباً مَخْرجاً من الخوف إنْ لم يكن عبر الباب فعبر النافذة وإنْ لم يكن في ذلك ولا في هذه فمن الثمالة. منتهى الخوف نهاية الخوف. لا شيء، لا الإرهاب ولا الانحطاط، يُبطل الحاجة إلى الجمال. ما دام هناك مرآة، من زجاج أو من خيال، من عيون الإنسان أو عيون الطبيعة أو عيون الأنفاس الخفيّة، سيبقى مَن يسعى إلى الجمال وسيبقى من يُبدعه.
كلّما تَجهَّم العالم تعاظمت الحاجة إلى الجمال. ومهما ازدحمت الكوابيس لن تقوى على الركن الصغير الذي يومض فيه كسراج الليل بصيصٌ بعيدٌ في أعماق الغابة.
ليس هو الأمل بل جنونٌ إلهيّ:
جنون التوق إلى الجمال وجنون اجتراحه.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...