«المآسي الصغيرة» لبوشكين.. تراجيديا الصمت

02-07-2013

«المآسي الصغيرة» لبوشكين.. تراجيديا الصمت

«المآسي الصغيرة» لبوشكين (عن الهيئة العامة السورية للكتاب) ترجمة غاص بها عدنان جاموس في أعماق الشاعر والروائي ألكسندر بوشكين (1799- 1837)، محاولاً التقاط حساسيات روحه القلقة، راصداً مواقفه من البخل والنذالة وقتل الغيرة والغدر، فلا احترام للقتلة، كما في مسرحية «موزارت وساليري»، مجسِّداً محوري الثبات والحركة اللذين تقوم عليهما هذه المآسي، ما أعطاها قيمة تراجيدية. إذ من الصعب سواء في ترجمة الشعر أو في ترجمة مسرحيةٍ شعرية نقلُ عنصر الصراع النفسي بهذه الدقة، فنرى الوداعة والشراسة كل منهما تصطدم بالأخرى بما تملكان من القوَّة والجبروت.
ففي مسرحية» الفارس البخيل» نرى الأب يزدري ويقاوم ابنه الكريم الشهم، مكدِّساً المال والذهب، بينما يبخل به على ولده، الذي كان في سريرة نفسه يتمنَّى الموت لأبيه الذي يحرمه من الانتفاع به. وهذا ما جعل ابن «المرابي اليهودي»، الذي كان يقترض من ابيه المالَ، يفكر في دسِّ السمِّ لأبيه.
غير أن بوشكين، في مسرحية «موزارت وساليري»، يُبرز مواقفه الفكرية والأخلاقية من رمزٍ موسيقي (وولفانغ موزارت 1756-1791) الذي قُتل غيلة على يد زميل له (أنطونيو ساليري 1750-1825) الذي كان مديراً لمسرح فيينا، وكان من تلامذته بيتهوفن وشوبرت. وذلك من خلال تجسيده صراع العقل العبقري مع العقل المهني، الذي لم يجد أكثر من القتل حلاً للتغلب والتخلُّص من زميلٍ ليس عدواً ولا خصماً، وهذا ما اعترف به ساليري وهو على فراش الموت، الأمر الذي أثار نخوة بوشكين فينتصر له في هذه المأساة. بينما في «الضيف الحجري» وهي عن أسطورة إسبانية عن مغامر ماجن «دون جوان» يملك طاقة جنسية خارقة - أو هو مريض نفسياً وعصبياً، لا يجيد غير إيقاع النساء في شراكِه، كائناتٍ من كنَّ، لكنَّه عند بوشكين يصير باحثاً عن حب، يعشق «دونا آنا»، فيعلق بألاعيبه، ويقول لها: (مع حبك أصبحتُ أحبُّ الفضيلة)!!! وهو لم يتورَّع عن قتل زوجها «الكوماندور» الذي يتحوَّل إلى تمثال - ليرتقي هو درجة في سلَّم الوصول إليها في الفراش. حيث يدعوه لاحقاً ليشهد كيف سيتلذَّذ بمعاشرة زوجته أمام عينيه، وهذا ما لم يحتمله التمثال (الكوماندور) فيصرعه ويتهاوى «دون جوان» قتيلاً.
وفي مسرحية أو قصيدة «مأدبة في زمن الطاعون»، وهي من الشعر الخالص، الغنائي، كما نتلمَّس، يتبادل أصواتها الرئيس والكاهن ولويزا والشاب وماري وبضعة أصوات، كان بوشكين يرثي موتى الطاعون الذي تفشَّى في قريته «بولدينو» عام 1830، عندما قَدِمِ إليها ليرهنها لقاء مبلغ من المال يُيَسِّر له دفع نفقات عرسه من أجمل جميلات موسكو «ناتاليا غونتشاروفا»، التي كلَّفه الزواج بها في ما بعد أن يدفع حياته ثمناً لجمالها في مبارزةٍ مع ضابط في حرس الخيالة، «جورج دانتيس»، إثر رسالة من مجهول تتضمَّن مسَّاً بشرفه وشرف زوجته. مع ذلك فالمسرحيات على قصرها كأنَّها حوارات ذاتية تعيد صياغة الخبر مثل: كيف مات الموسيقار موزارت إذ نبقى في الخبر، ولا يذهب بوشكين إلى الصراع (القوَّة × القوَّة) - لا ننكر أنَّه حوار درامي لكنه (ذاتي)، أرانا فيه بوشكين موقفه الأخلاقي من قتل الغيلة، من دون أن ينسى أن يكشف عن المغزى الجمالي لموت موسيقار كموزارت. طبعاً نحن لا نلزم بوشكين بأن يُجري محاكمة نقدية ولو تقليدية، فهو يكتب بالشعر، والشعر على ما نقدِّر هو أكثر احتواءً للمآسي لأنَّه يعالج آلام الناس، فالمأساة حين يحتضنها الشعر يخفض صوتها، ويكاد ينعدم ضجيجها فنشعر بالصمت. على أن الصمت في الشعر هو بحد ذاته (دراما) تحقِّر القاهر وتنتصر للمقهور.

أنور محمد

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...