حنا مينه: رسالة إلى نصف مجنون

22-05-2010

حنا مينه: رسالة إلى نصف مجنون

وحق طفلك لم أشمت بامرأةٍ زلّت بها قدمٌ أو غرها ذهبُ

فربّ أُنثى يخون البؤس هيبتها والبؤس أعمى، فتعيا ثم تنقلبُ ‏

 وكم انقلبت نساء، وكم من امرأة خان البؤس هيبتها، فزلت بها قدم، أو غرها ذهب، فتاهت في خرائب المدن، أو ضاعت في أمداء الصحارى، دون أن توقف زلّتها الأيام، أو ينصفها الرجال والحكام، وأنت، يا حلاقاً في حارة القلعة، كنت تعيساً مثلها إذ لم تسلم أختاك من أذى الجوع، والخيبات، والمرارات فسقطت الأولى، وتبعتها الثانية، وأنت ترى، وتسمع، وتبكي سراً وكان دمعك بعد أن بهظك هذا المصير البائس، وأشفقت على أمك وهي تصلّي راكعة، وابنها الصغير الذي كنته، يركع مثلها، يصلي نفس صلاتها، ويتضرع إلى العذراء البتول مريم، كما تتضرع أمه، ويؤمن، كما علمته، بأن رجاء البائسين لا يخيب إلى الأبد، وأن الرب الرحيم سيمد يمناه وينتشلنا من قاع البئر المهجور، بئر الشقاء الذي طال وطال إلى أن كبرت، فحررت أختيك وزوجت الواحدة بعد الأخرى، وسُعدت لأنهما تابتا، وكانتا ربّتي بيت تشع الشمس في جوانبه، ثم مشيت حزيناً، واجماً وراء نعش الواحدة بعد الأخرى، في موكب تشييع لائق، حافل، كرمى لك، أنت الذي لم تعرف الطفولة إلاّ شقاءً، ولم تجنِ من السياسة إلاّ علقمها، لكنك، يوماً بعد يوم، نهلت المعرفة من الكتب والناس، ووجدت أن ما تعلمته من الناس، كان الأبقى، والأعمق أثراً، في كيّ جوارحك!. ‏

لقد قرأت، وأنت حلاق، الكتاب بعد الآخر، ودوّنت على هوامش الكتب بعض الملاحظات، وبعض الأسئلة، وكانت مشكلة (اللامبالاة) هي التي أربكتك، حيّرتك، إلى أن مرّ بدكان الحلاقة طالب يدرس الحقوق في جامعة دمشق، فابتسم حَرِباً، مشفقاً عليك، وقال لك: إن (اللامبالاة) هذه بسيطة جداً، هينة جداً، وإنها تعني اللامبالاة، أي إنك لا تبالي بهذا الأمر، أو تلك القضية!. ‏

أنت، يا صاحبي الحلاق، أحسنت عندما نبذت الخوف، والخجل، فكنت تسأل طلاب الثانويات، عن معنى هذه الكلمة أو تلك، وتتقن فن الإصغاء، وفن الإمتاع والاستمتاع بقدسية الكلمة، ونبالة الحرف، قبل أن تعرف، أو تسمع، باسم أبي حيان التوحيدي، وتقانة السرد لديه، هذا الكبير الذي عضه الجوع، والفقر، والترحّل بين المدن وخيبات الأمل، عند هذا أو ذاك ممن قصدهم، التماساً للعون، ونشدانا للشبع، هو الذي قال، بجسارة (انتعلت الدم) ثم أحرق، نكاية بالدنيا وقسوتها عليه، أكثر كتبه، فلم يبق لنا منها إلا القليل القليل. ‏

وداعاً أبا حيان، وشكراً جزيلاً، مقروناً بالامتنان، وعرفان الجميل، لأنك علمتني، وأنا حلاق بعد، الكثير من الأشياء، والجمّ من ألوان المعرفة، فأنا مفارقك (وكل أخ مفارقه أخوه، وكل مشعشع فإلى غروب) لأن القلب له عليَّ حق، وقلبي شجعته فتاة جميلة من آل حرقص في اللاذقية، على التفتح حبّاً، وبادلته، من نافذتها إلى نافذة بيتي، تلويحاً باليد، غير كاشفة الزند، ما أجّج الشوق إليها بين جوانحي، والسعادة غامرة في سريرتي، حتى أتى ذلك اليوم المشؤوم، حين ألتقيتها في الشارع، فقلت لها (صباح الخير) فأجابتك بقسوة: (كلب)!. ‏

الحلاق ليس كلباً، إنها عمل، والعمل في كل حالاته شرف ومجد، ومن هذا العمل أو تتويجاً له، كان الكفاح، وما قيمة الدنيا بغير كفاح؟ سلوا سيدتنا حوّاء، وسيدنا آدم، والتفاحة المباركة، والأفعى التي من سمها الداء والشفاء، سلوهما لماذا كان الجنس؟ ولماذا الجنس كان بداية التاريخ؟ فقبل أن تتجرأ حواء، والجرأة إحدى الصفات النابهات للمرأة، وتقتسم تفاحة الجنس مع أبينا آدم الخامل، على ما تروي الأساطير، وبعد قضم التفاحة في أندى لذاذتها، هبطا إلى الأرض، إلى دنيا الكفاح، والطروسي، بطل (الشراع والعاصفة) له هذه الحكمة (الحياة كفاح في البحر والبر) ومنه، أنا الذي خلقته أديباً، تعلمت أن لكل بحار، في كل مرفأ خمّارة وامرأة، وهذا هو قانون البحر والبحّارة، هذا هو قانوني، أنا الذي اعتليت الأمواج في أعتى العواصف، لذلك يطلقون عليّ اسم (أديب البحر) عن حق وجدارة.. وإنني لأضحك، استخفافاً بعقول الذين يزعمون من صغار الكتبة، أنني لم أعرف سوى شاطئ البحر، لا البحر في لجّته الزرقاء، فلا يكون مني سوى رد واحد: حمقى!. ‏

حنا مينه (كلب!) يا بنت حرقص؟ (نظار تطلع على الدنيا) سجايانا، وبعد طلوعها بنحو خمسين عاماً، زعمت سعاد أنني سأكتب قصة عنها، ولسوف أكتب هذه القصة المؤطرة بالغار، صناعة مصيفنا الرائع (كسب) إذا ما كانت ثمّة فسحة في العمر، وإني لشديد الامتنان، لسعاد حرقص هذه، التي سعت، بعد نصف قرن، للقاء بيننا على مائدة أسرة محترمة، فوافقت أولاً، وقبل ربع ساعة من الموعد اعتذرت، راغباً عن رؤيتها وجهي وأنا في الستين من عمري، وراغباً، ايضاً عن رؤية ملاحة وجهها وهي في عمر يقارب عمري تقريباً!. ‏

الندم هو تكرار للفعل، ولم استشعر الندم على جَنَفِ هذا الفعل، كي تبقى صورة سعاد حرقص على ما كانت عليه من ملاحة، أيام تلاويح الأيدي من النوافذ، ويوم ترشح والد سعاد للنيابة، ودعاني وبعض رفاقي إلى بيته، كي يقنعنا بتأييده في الانتخابات النيابية، ولم يكن له حظ في النجاح، فسحب ترشيحه، ولم أصادف، يوم دخلت بيته لأول مرة، سعاد العزيزة هذه لأنها كانت قد تزوجت ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...