نصر شمالي : ولّى زمن الهزائم والتحالفات المشينة!

27-08-2007

نصر شمالي : ولّى زمن الهزائم والتحالفات المشينة!

الجمل ـ نصر شمالي : ميّز الإنسان العربي العادي دائماً بين الحق والباطل وبين الخطأ والصواب وبين الجدّ والهزل، معتمداً على حسّه الفطري وحدسه العملي، وعلى تجاربه وخبراته الميدانية، مضافاً إليها تجارب وخبرات آبائه وأجداده، وكذلك تجارب وخبرات الأمم الأخرى، غير أن ذلك كله فقد فعاليته إلى حدّ كبير طوال عشرات السنين الماضية، فقد هبّ بعض العرب لاعتراضه وتسفيهه بمعارف مترجمة وبأداء مقلّد! لقد أرادوا (في حال حسن الظن) مواجهة الأعداء بأفكار الأعداء التي اعتنقوها من دون أن يمتلكوا أسسها المادية والاجتماعية! وأرادوا مواجهة أسلحة العدو الحربية بأسلحة العدو الحربية التي اقتنوها من دون أن يمتلكوا مصانعها! وأرادوا محاكاة مجتمعات الدول الاستعمارية في نمط حياتها اليومية المرفهة وأن يحاربوا هذه الدول في الوقت نفسه، فجاءت المحاكاة هزلية قياساً بأوضاع مجتمعاتهم، وبالتالي كانت الحرب أشبه بالتمثيلية!
لقد كان مطلوباً وضرورياً ومنطقياً دراسة فكر الأعداء والأصدقاء الأجانب، إنما لشحذ الهمم وليس لإحباطها، ولتطوير المعارف الأصلية وليس لإلغائها، ولتنمية القدرات الذاتية وليس لتعطيلها، ولتوسيع آفاق المستقبل الخاص الكريم وليس لتضييقها، غير أن ما حدث كان العكس تماماً إلى حد كبير، بل لقد ضربت بقسوة شديدة كل إرادة ذاتية مستقلة وطنية أو قومية أو إسلامية، وتوالت عمليات النقد الذاتي بعد الهزائم تنحو باللائمة على الأمة وحدها دائماً وعلى تراثها تحديداً، وهكذا تشكلت أكثرية ساحقة صامتة تتابع مشفقة ومغلوبة على أمرها بهلوانيات مثقفيها وارتكابات قادتها وجهالات أولياء أمرها، مكتفية أقلّه بالدفاع عن مجرّد وجودها الأولي المهدّد بالاستئصال!
لقد تشكلت على مدى عشرات السنين الماضية أوساط متحالفة من الخونة والانتهازيين والجهلة أدمنت الحضور مقابل غياب الأمة، والعيش المرفّه على حساب بؤسها وشقائها ودمائها! وعندما بدأت التحولات الإيجابية الكبرى بالظهور في السنوات القليلة الماضية، ابتداء بانتفاضة أطفال الحجارة الفلسطينيين التي عكست روح ومقدرة الأكثرية الصامتة، لم يتورع تحالف الخيانة والجهل والانتهازية عن الإنحياز الصريح المعلن لصفوف الأعداء، وقد جنّ جنونه حقاً وهو يستمع مؤخراً إلى إعلان قادة المقاومة بأن زمن الهزائم قد ولّى، فقد أدرك التحالف المشين أن زمنه أيضاً قد ولّى!
* * *
في احتفال بيروت، بمناسبة مرور عام على اندحار العدو وانتصار المقاومة (14/8/2007) أورد سماحة السيد حسن نصر الله في خطابه التاريخي نصّين قديمين من وثائق العدو الاستراتيجية المعلنة، أحدهما يعود إلى العام 1897 والثاني يعود إلى العام 1907، وهما نصان يفرضان على الأمة العربية خياراً واحداً وحيداً للدفاع عن وجودها: خيار المقاومة الذي له الأولوية على كل ما عداه! غير أن تحالف الخيانة والانتهازية والجهل قدّم على هذا الخيار كل ما عداه!
في النص الأول يقول تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية اليهودية عام 1897 ما يلي:" إنه لمن مصلحة الأمم المتحالفة أكثر فأكثر (يقصد الدول الاستعمارية) ومن مصلحة المدنية بشكل عام (يقصد بلدان أوروبا الغربية والولايات المتحدة) تأسيس محطة حضارية عبر أقصر طريق إلى آسيا، وفلسطين هي تلك المحطة، ونحن اليهود على استعداد لبذل أملاكنا وأرواحنا من أجل تكوينها.. سوف نشكل جزءاً من متراس أوروبا في وجه آسيا، كقاعدة أمامية تعارض البربرية، وينبغي علينا أن نبقى متحالفين مع أوروبا بأكملها (في ما بعد مع الولايات المتحدة) التي سوف يترتب عليها ضمان وجودنا"!
وفي النص الثاني يقول تقرير لجنة كامبل بنرمان (رئيس وزراء بريطانيا) الذي أعدّ عام 1907 ما يلي:" إن الخطر على كيان الامبراطوريات الاستعمارية يكمن بالدرجة الأولى في هذه المنطقة (العربية) في تحرّرها وتطورها وتوحيد اتجاهات سكانها، وفي تجمعها واتحادها حول هدف واحد وعقيدة واحدة، ولذلك ينبغي على جميع الدول (الاستعمارية) ذات المصالح المشتركة العمل على استمرار وضع هذه المنطقة مجزأة ومتأخرة، وعلى إبقاء شعبها في ما هو عليه من التفكك والجهل والتناحر، وعلى فصل الشطر العربي الأفريقي عن الشطر العربي الآسيوي بإقامة حاجز بشري قوي وغريب، بحيث تكون في هذه المنطقة قوة صديقة للاستعمار وعدوة للعرب"!
أليس في هذين النصين المعلنين المعروفين منذ عشرات السنين، من دون الانشغال بأية نصوص أخرى وبأية فذلكات وبهلوانيات ذهنية، ما يكفي وحده تماماً كأساس لوضع استراتيجية عربية مقاومة لا يعلو عليها ولا يوازيها أي هدف آخر؟ أليس فيهما، وقد وضعا موضع التنفيذ على مدار الساعة حتى يومنا هذا، ما يكفي لإقناعنا بوضع كل ما نستطيع وكل ما نملك بتصرف استراتيجية المقاومة؟ إن كلام هرتزل وتوصيات بنرمان تتحدث بوضوح عن الحيلولة دون تطور الأمة وتوحّدها حول هدف واحد وعقيدة واحدة، وعن ضرورة بقائها مجزأة مفككة ومتأخرة متناحرة، حيث في ذلك حياة الإمبراطوريات الاستعمارية المشروط باضمحلال الأمة وفنائها، فهل يحتاج الأمر إلى طول تأمل وتفكير في الحل المطلوب؟ ألا يخبرنا العدو بما ينبغي علينا فعله كي نبقى على قيد الحياة؟ غير أن تحالف الخيانة والانتهازية والجهل لم يأبه! لقد واصل مساعيه على مدى عشرات السنين الماضية من أجل إقامة دويلات ومجتمعات على غرار الدول والمجتمعات الاستعمارية، جاعلاً من هدف درء الخطر الاستعماري الصهيوني عن الأمة هدفاً ثانوياً! وبالطبع ما كان ممكناً أبداً إقامة مجتمعات متقدمة قبل درء الخطر الاستعماري الصهيوني، فتحولت تلك المساعي إلى جهود تصب في صالح مشاريع الأعداء وتعيق نهوض المقاومة الضرورية كطريق وحيدة للخلاص!
اليوم، هاهي المقاومة العربية تنهض بالعبء الأساسي الذي تأخر النهوض به قرناً كاملاً، فترتاح لأدائها أرواح الآباء والأجداد الذين حيل بينهم وبين القيام بواجباتهم، ويطمئن لسماعها الأبناء والأحفاد وهي تعلن أن زمن الهزائم قد ولّى إلى غير رجعة.

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...