مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (2- 2)

24-07-2006

مبادئ القانون الدولي العام في الإسلام (2- 2)

4- قواعـد الحـرب:هكذا يوصينا الإسلام بالمصابرة ما بقي في قوس الصبر منزع ولا يخولنا حق الالتجاء إلى القتال، إلا حيث يفرضه علينا العدو فرضاً، وحيث يكون العقود معناه إلا لقاء باليد إلى التهلكة.
لكنه – حتى في هذه الحال المشروعة – لا يبيح لأحد أن يخوض غمار الحرب منقاداً بسورة الغضب، أسيراً لغريزة الانتقام، دون تعقل ولا عاطفة إنسانية، بل يوجب أن يسير فيها الجيشان، وفق قانون معين يضبط هذه الانفعالات وينظمها.
فلنعرض الآن بعض تلك التعاليم التي أراد الإسلام – لا أقول أن يمحو بها إلى الأبد تلك الكارثة العالمية، فذلك ما لا يمكن تحقيقه ما بقي على الأرض، شريرون لا يقمع نشاطهم الإجرامي إلا بالقوة – ولكن أراد الإسلام بها تضييق مجال الحروب، وتخفيف عواقبها الوخيمة .

( أ) الأهداف الحربية:
رأينا كيف أن القرآن حين أباح الحرب الدفاعية المشروعة قد ميز تميزاً واضحاً بين المحاربين وغير المحاربين، فأمر بألا يقاتل إلا المقاتل، ولا بد أن نفهم من كلمة المقاتلين: أنهم الذين يحضرون ميدان القتال بالفعل ويستخدمون فيه قوتهم العدوانية.
ولقد استرشد التشريع الإسلامي بتعاليم النبوة في هذا الشأن فحدد هذا الشرط عل وجه يزيل كل لبس، ويكفل أبعاد شرور الحرب عن الضعفاء، ويجنب المدنيين كل ويلاتها، فالأطفال والشيوخ والنساء والمرضى والمعتوهون، بل حتى الفلاحون في حرثهم، والرهبان في معابدهم  كل أولئك معصومون
بحصا القانون من أخطار الحروب.
والذي نظرنا بوجه خاص في هذا المقام هو حرص الإسلام، لا على حماية هؤلاء الضعفاء من الأضرار المادية فحسب، بل على حمايتهم أيضاً من التعرض

لكل ألم نفسي، يبدو لنا ذلك جلياً بتأمل المثال التالي الذي ترويه لنا الآثار عن واقعة خبير، ذلك أنه حين انتهى حصار هذه المدينة بنصر المسلمين، وقعت امرأتان يهوديتان في اسر بلال، فمضى بهما بلال إلى مركز القيادة، ماراً بميدان المعركة حيث سقطت جثث القتل من اليهود، وكان لهذا المشهد أثره العميق في نفس إحدى السيرتين، فصاحت وأجهشت بالبكاء، وما إن علم النبي بسلوك بلال هذا، حتى استنكر فعلته، ووجه إليه اللوم العنيف قائلاً له :( هل نُزعت منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟)
وينساق بنا الحديث  في هذا المعنى إلى التنويه بالقاعدة الإسلامية المتعلقة بأسرى الحرب، التي تحرم الفصل بين المرأة الأسيرة وأبنائها، وتوجب الجمع بينهم في مكان واحد، فبالها من عناية رحيمة حتى في معمعة البأس.

(ب) النهي عن حبس الطعام عن المدن:
ويظهر أن الإسلام لا يستحسن – بل لا يبيح- فرض حصار يرمي إلى حبس الطعام عن
مدن الأعداء، أو أن هذا على الأقل هو ما تدل عليه حادثة ثمامة ( أحد أشراف بني حنيفة) فقد صمم
هذا الرجل وهو في حداثة إسلام، وأقسم مندفعاً بحرارة إيمانه الغض على منع تموين مكة بالحبوب التي تنتجها بلاده( اليمامة) ما لم ينهه النبي عن ذلك نهياً صريحاً، فلما عانى أهل مكة ما عانوا من بأس
هذا الحصار وجهوا إلى النبي رسالة موجزة يقولون فيها: ( إنك تأمر بصلة الرحم، ولكنك قطعت
أرحامنا فتلت الاباء وجوعت الأبناء) فبعث النبي على الفور إلى ثمامة يأمره برفع هذا الحظر، وبأن
يدع أهل مكة يتمتعون بمواردهم العادية.

(جـ ) تقييد مرمى الأسلحة:
ومن ثمرات القاعدة التي توجب حصر العمليات الحربية في الأهداف العسكرية النهي عن استعمال الأسلحة البعيدة المدى، وخاصة كل وسيلة عامة للتدمير كالتغريق والتحريق.

(د) حظر وسائل الانتقام الوحشية:
يستنكر القرآن في غير موضع تلك العادة الهمجية التي يشيع استعمالها في أثناء الحروب، ألا وهي تعذيب الأعداد ومعاملتهم بالقسوة والخشونة، وإنه ليصل في استنكار هذه الفعلة إلى حد أن يعد تعذيب العدو أشد جرما من القتل: ( والفتنة اشد القتل) 191:2 ( والفتنة من القتل) 217:2 .
ثم إننا نجد تعاليم الرسول التي كان يوجهها قواد حملاته الحربية زاخرة بنصائحه لهم على
التزام النظام وحسن السلوك في قتالهم، ومن بين هذه النصائح تحذيره التكرر لهم من السلب والنهب
والقتل غدراً، والتمثيل بجثث القتلى، نعم إنه ذات مرة اشتد غضبه من أهل مكة لتمثيلهم بجثة عمه
حمزة الذي استشهد في غزوة أحد، وحمله ذلك الغضب على التفكير في مضاعفة الانتقام منهم في
واقعة مقبلة، ولكن القرآن لم يلبث أن نفره من هذه المحاولة، محذراً إياه من مجاوزة الحد في
الانتقام، مرغباً له في الصبر والصفح (16: 126، 127) فلم يسمع النبي عليه الصلاة والسلام إلا العدول عن هذه الفكرة، واختار ما هو أليق بخلقه الكريم، فشمل مجرمي الحرب هؤلاء بكرمه وصفحه.
         ولقد بلغت به دقة تطبيقه لحكم القرآن الذي يأمر بالعفو عن الأعداء متى انتهوا عن عدوانهم
أن نهى عن تعقب من يفر منهم من الحرب، فما بالك بمن يلقي سلاحه ويتقدم إلينا في صراحة
بعبارات السلام والاستسلام؟ إن القرآن ليحرم علينا إيذاءه تحريماً قاطعاً حتى لو كان ذلك بحجة
الشك في صدق إيمانه (4: 94 ) .
تلك كلها أدلة ملموسة على أن الإسلام لا يرمي قط إلى القضاء على أعدائه ولا إلى الاستيلاء
عليهم بالقهر، ولكن إلى تجنب خطرهم، فمتى تحقق هذا الغرض ولم يبق للصراع في نظره مبرر.

(هـ) الهدنة الإجبارية في الأشهر الحرم :
وهذا أسلوب آخر من أساليب تخفيف ويلات الحرب.
فنحن نعرف مدى ما تستنفده الحروب الطويلة الأمد من جهود الشعوب وقوائم،وكيف أنها تصيب نشاطهم التعميري بالجمود والشلل، وعلاجا لهذه الحال سن القرآن، أو بالأحرى أحيا تلك السنة القديمة التي توجب عدم استمرار الحروب حولاً بأكمله، فتقرر في أثنائه هدنة جبرية تعود فيها العلاقات السلمية، وتأخذ الحياة مجراها الطبيعي بين الأمم في مدة اقلها أربعة أشهر، هذا الوضع الذي تُكف به أعمال الحرب جبراً خلال ثلث العام لا تنحصر مزيته في إشعار المتحاربين بلذة السلم في هذه المدة فحسب، بل إنه يتركه من الأثر في نفوس الجماهير يثبطهم عن الشر، ويغريهم بإطالة أمد الصلح، وتحويله من هدنة مؤقتة إلى هدنة حقيقية أو إلى سلم دائم.

(و) التسـلح:
من أنواع العلاج الواقي الذي يوصي به ساسة الغرب في العصور الحديثة منعاً لنشوب
الصراع بين الدول، مشروع منع التسلح أو تقييده. غير أن هذا العلاج لم يتخذ قط حتى الآن صفة
القانون الدولي ولم تطبق مبادئه تطبيقاً عادلاً على الجميع وإنما كان يفرض على المغلوب وحده، بل
يمكن القول بأن تطبيق هذا المبدأ الذي يتعارض وغريزة البقاء سيظل دائماً حلماً مستحيل التحقيق.
         أما القرى، فإن نظرته الواقعية النفاذة جعلته على العكس من ذلك، يحضنا على أن نعد للطاغين كل ما استطعنا من قوة، على أن تلك النظرة الواقعية إلى الوسائل التي يجب اتخاذها لم تكن لتحول دون نظرته المثالية إلى الغايات العليا التي يهدف إليها من وراء هذا الاستعداد الحرب، وهي غاية تختلف كل الاختلاف عن الغايات التي يسعى إليها الغزاة الطامحون، فالمسألة في نظر القرآن ليست مسألة إعداد للهجوم على الأعداء، بل للتحصين من شرهم، وإنذارهم بالقوة الباطشة التي تنتظرهم إذا لم يقفوا عند حدهم ( 8: 60) .
هاهنا يكمن أنجع علاج في نظرنا لآلام الإنسانية الحاضرة، فليس الشأن في أن نقلل من مقادير عتادنا الحربي أو نغير من طبيعته وإنما الأمر في أن نعدل أسلوبنا الفكري من أساسه، علينا أن ننظر إلى الحياة نظرة جديدة تخضع فيها المادة للروح، وتسمو فيها المعنويات على الجثمانيات، وكل حل ينقصه هذا العنصر، غنما هو حل سطحي وأه لا بقاء له.

5- العلاقات السياسية:
رأينا في السطر القليلة السابقة كيف نظم الإسلام حالة الحرب. فلننظر الآن كيف نظم علائق السلم، وأول ما يعنينا من ذلك طريقة معاملته لمبعوثي أعدائه، حاملي رسائلهم، وممثليهم السياسيين، وهي معاملة يحق لنا أن نقول فيها أنها سديدة مستقيمة، فالإسلام فوق ما يكلفه لهم من صيانة وأمن على الأرواح  يمنحهم نوعاً من الحصانة الاجتماعية التي تخولهم حرية العودة إلى أوطانهم متى شاءوا، ولا يدع سبيلاً إلى حجزهم في بلادنا بحجة أنهم من قوم عدو لنا.
 يلي ذلك طريقته في الاستماع لهؤلاء المفاوضين وحسن استعداه للتفاهم والتعاقد معهم،
فالقرآن يحض الرسول على قبول مبدأ الصلح متى وجد من العدو ميلاً غليه « وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها »(8: 61).
أما شرائط الصلح وطرائفه، فقد رأينا بصدد هدنة الحديبية، كيف أن روح المسالمة التي تعمر قلب رسول الإسلام، قد جعلته يضحي بكثير من التفاصيل المتعلقة بألقابه الأدبية، وبالسمعة الحربية لجيشه، وببعض الحقوق الفردية لأتباعه على أنه ليس معنى ذلك أن يتوجب قبول كل اقتراح من جانب الأعداء، مهما كان شاذاً، أو ضاراً بحقوق الأمة والأجيال المقبلة، فقد رأينا هذا الرسول الرحيم نفسه، حين عرض عليه مسيلمة الكذاب تقسيم  « الأرض » بينه وبينه يرفض ذلك العرض رفضاً صارماً، ويجيبه بتلك الجملة الحكمية التي يقتبسها من القرآن: « إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده »(21: 105).
فإذا نحن درسنا الوثائق التي تركتها لنا السير عن العلاقات السياسية النبوية، استطعنا أن نتبين فيها أنواعاً مختلفة من المواثيق:

(أ‌) إعلان الأمن والحماية:
لعل أبسط العقود السياسية هو التصريح الذي يصدر من جانب واحد، ولا يُلزم إلا الطرف الذي أصدره، كإعلان دولة ما: أنها تلتزم الأمن والحماية لدولة أخرى. وإننا لنجد من هذا النوع مثالاً واضحاً في ذلك العهد الذي أعطاه النبي لأهل سوريا ومن معهم في أثناء غزوة تبوك، وضمن لهم فيه حرية انتقالهم، وأمن قوافلهم البرية والبحرية، وحرية استعمالهم للطرق ومجاري المياه، على شريطة واحدة، وهي ألا يثيروا على الملمين شغبا.

(ب)- ميثاق عدم الاعتداء من الجانبين :
 لكن المعاهدة بالمعنى الصحيح تتطلب اتفاقاً وتبادلاً للمنافع طرفا العقد جميعاً. وإن أقل ما يتحقق فيه هذا النوع من العهود، هو التعاقد الذي لا يتضمن إلا التزامات سلبية تنحصر في امتناع كلاً من الطرفين عن كل فعل ضار بالآخر.
 وقد نقل لنا المؤرخون أمثلة لمواثيق من هذا النوع عقدها النبي والتزم فيها الطرفان أما المدة غير محصورة، وإما إلى أجل معلوم- ألا يهاجم أحدهما الآخر، ولا يحالف عدواً له، ولا يساعد معتدياً عليه. فمن هذا القبيل ميثاقه إلى أجل غير مسمى مع بني ضمرة في السنة الثانية من الهجرة، ومنه أيضاً ميثاق الهدنة التي عقدها مع قريش في السنة السادسة من الهجرة لمدة عشرة أعوام .

(جـ) المحالفة :
على أن الحقوق والواجبات المتبادلة إنما تبرز في أكمل مظاهرها في عهود الحلف، ومن أمثلة هذه العهود في حياة الرسول، تانك المحالفتان اللتان مهد لهما صلح الحديبية حيث خول كلاً من الفريقين
 أن يختار حليفاً له من بين القبائل العربية فاختارت « خزاعة » أن تحالف محمداً، واختارت « بنو بكر » أن تحالف قريشاً . ولقد كان من نتائج تطبيق هاتين المحالفتين أن نهض المسلمون في السنة الثامنة
لنجدة خزاعة حيث نقضت عهدها بإزائها، وينبغي أن يلاحظ أن هذا النقض لم يكن مباشر موجه
علانية لخزاعة، وإنما كان معاونة سرية بالمال والسلاح لبني بكر عليها، ومن هنا تعرف وجهة
نظر الإسلام في هذه النقطة القانونية.

(د) الإعارة والتأجير: 
وهذا مثال طريف لنوع من المواثيق لا نجده بعد إلا في العصر: ذلك هو العهد الذي أعطاه
النبي لنصارى نجران باليمن، وهو وإن كان عهداً ملياً أكثر منه عهداً دولياً، إلا أن فيه شرطاً يذكرنا
بمثياق الإعارة والتأخير الذي عقدته الولايات المتحدة الأمريكية مع بريطانيا لتموين لتموين
الجيوش الإنجليزية في الحرب العالمية الثانية.
فهذا العهد النبوي إذا نظرنا إليه من وجهته الاجتماعية والدينية، نراه يلتزم للنجرانيين حرية عقيدتهم وعبادتهم، وسلامة معابدهم، وعدم المساس بمساكن كهنتهم ما داموا لا يحدثون اضطراباً، ولكن الناحية الاقتصادية لهذا العهد أكثر طرافة فإنه ينص على ضرورة تقديم مساعدة مادية معينة منهم للمسلمين في حال حدوث نزاع بين المسلمين وبين طرف ثالث في اليمن، ومن بين هذه المساعدة إعارة جيش المسلمين ثلاثين وحدة من كل صنف من أصناف السلاح، على أن يقوم المسلمون برد هذه الأسلحة إلى حلفائهم النجرانيين بمجرد انتهاء الحرب.

6- الوفاء بالعهود:
وبعد: فإن من المقرر المعترف به عند الجميع أنه يجب على طرفي العقد – مهما كان نوع المعاهدة التي بينهما – أن يحافظا بدقة وأمانة على تنفيذ كل شروط الميثاق بنصها وروحها.
غير أن هذا الالتزام يأخذ في نصوص القرآن طابعاً خاصاً من التشديد ومن القدسية يجعله فرضاً دينياً بالمعنى الحقيقي، فالميثاق الذي يعقده المسلم لا يرتبط به أمام الناس فحسب، بل أنه ينعقد في الوقت نفسه بينه وبين الله تعالى إذ يجعل المسلم ربه شهيداً وكفيلاً على عقوده والتزاماته، ومن هنا يصبح احترام هذه الالتزامات أمراً متغلغلاً في النفوس، متصلاً أوثق اتصال بعقد الإيمان، بحيث لا يبقي لقوة في الأرض أن تحلله منه، سواء في ذلك دوافع المنفعة أو طلب النفوذ، أو زيادة الرخاء، أو المجال الحيوي، أو التوسع الاقتصادي، أو التوازن السياسي، أو غير ذلك.
وإلى هذا كله يشير القرآن حيث يقول :( ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربي من أمة، إنما يبلوكم الله به)16: 91 ، 92.
فإذ نحن رجعنا إلى السنة النبوية وجدناها قد بلغت من الدقة في تطبيقها لهذه التعليمات القرآنية
مبلغاً يكفي في وصفه أن نورد بعض أمثلة منه:
كان أبو جندل من المسلمين المحصورين في مكة، فينما كانت تكتب شروط صلح الحديبية اقبل يرسف في قيوده ليقيم مع المسلمين، وإذ كانت المعاهدة لم توقع بعد، كان من المكن ألا يطبق عليه شرط رد اللاجئين، ولكن ممثل قريش عارض في ذلك بحجة أن الاتفاق الشفوي قد تم آنفاً قبل قدوم هذا اللاجئ، فصدقه النبي عليه الصلاة والسلام، وتركه يأخذ بتلابيب المهاجر ليرده إلى مكة، ولم يكن صياح أبي جندل وشكواه وإعلان خوفه من أن يفتنه المشركون عن دينه إذا رجع ذلك -  ليغير من موقف النبي وما زاد على أن قال : ( يا أبا جندل أصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، ولكننا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا، وأعطيناهم على ذلك عهداً، وإننا لا نغدر بهم – أو – وإنه لا يصلح في ديننا الغدر) ولقد تكرر مثل هذا الحادث بعد في شأن أسير آخر وهو أبو بصير، وكان الحل هو الحل.
         وإليك مثالاً من نوع آخر كان القادم فيه من المشركين لا من المسلمين، وجاء مبعوثاً لا هارباً ذلك هو أبو رافع الذي قدم برسالة من قريش إلى النبي فما هو إلا أن رأى النبي حق وقع في قلبه الإسلام،
وأراد ألا يرجع إلى قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد ».
          بل هناك ما هو أعظم من ذلك دلالة على قدسية العهود والمواثيق في نظر رسول الإسلام، وأنه لم يكن حرصه على الوفاء بعهوده اشد منه على وفاء أتباعه بعهودهم الشخصية، مهما شقت على ضمير المؤمنين، ومن أطراف الأسئلة في ذلك وأشدها غرابة حادثة حذيفة وأبيه فقد كانا قطعا عل نفسيهما لبعض الأعداد عهداً – بدون استئذان الرسول – ألا يقاتلاهم، فلما جاء وقت القتال استفتيا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان جوابه إلا أن قال: « انصرفا ففيالهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم » .

7- قطع العلائق السياسية:
شرطان لا بد منهما في نظر القرآن لإباحة نقض حلف سابق.
(1) هذا النقض لا يصح أن يحدث اعتباطاً وابتكاراً من قبلنا تحت تأثير الأغراض والمنافع، أو يباعث الهوى والعاطفة، بل لا بد أن يكون مسبوقاً باستفزاز من قبل الخصم وبإمارات تدل على أنه ينوي خيانة العهد.
(2) ولا يصح أن يكون قطع العلائق عملياً فقط، وبدون سابق إنذار وإلا لكان غسلاً للخيانة بالخيانة، بل لا بد أن يكون نبذاً للمعاهدة صريحاً واضحاً وأن يصل إلى علم الخصم في الوقت
المناسب ليكون على بينة من نيتنا نحوه حتى نكون وإياه سواء في ذلك، هذا هو
صريح نص القرآن (8: 58) .

- خاتمــــة:
 هكذا نرى أن التشريع الدولي في الإسلام يستوحي في كل خطوة من خطواته روح العدالة والمساواة بين الناس أمام القانون، بل يستمد من ينابيع أشد عمقاً من ذلك كله : يستمد من منابع الإيمان الصحيح، والخلق الكامل.
 ونستطيع أن نقول – ووثائق التاريخ بين أيدينا: إن هذا التشريع الدولي العام بمعناه الصحيح
لم يكن له وجود قبل الإسلام، ولم يصل إليه تشريع آخر بعد الإسلام إلى منا هذا.

من مختارات الجمل

                                                                                 الدكتور محمد عبد الله دراز

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...