لماذا غزت كرة القدم العالم؟

02-06-2011

لماذا غزت كرة القدم العالم؟

مارس الإنسان اللعب بكرة ما في مختلف العصور. لكن أول آثار لعب الكرة يعود بنا خلفاً لآلاف السنين حيث ادعت صحف هونغ كونغ الصادرة سنة 1976 أن أصل اللعبة يعود إلى الصينيين في عهد (ين -YIN) نحو 3500 سنة قبل الميلاد.
 
أما هوميروس في الأوديسة فيصف (كرة جميلة مشعة) على حين أننا نجد على إحدى المسلات الجنائزية التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد وفي متحف أثينا الوطني رسماً لشاب يرفع رجله اليسرى حيث يستقر على قدمه اليمنى بتوازن واضح. وكانت اللعبة تتمثل في ذلك الوقت في مجرد عملية قذف الكرة لأبعد مسافة ممكنة، توارثها الرومان بعدها لتشكل من خلالها لعبة أخرى تسمى في اللغة اللاتينية (HAR-PASTICM) وفيها يمكن إيقاف الكرة وحملها واحتضانها، وفي القرون الوسطى انتقلت اللعبة إلى قرى شمال غرب أوروبا مقاطعة بريتانيا الفرنسية الآن تحت اسم السول (SOULE)، وأخذت شكلاً وحشياً وعنيفاً، أما سكان البندقية في القرن السادس عشر، فقد كانوا يقضون أوقاتاً ممتعة في ممارسة لعبة (الكالشو) (CALCIO) وإلى الآن تسمى لعبة كرة القدم في تلك المناطق بالاسم نفسه، ولا ننسى أن نلمح أن خريطة إيطاليا نفسها تشبه قدماً تضرب كرة هي جزيرة صقلية.
لكن التاريخ الرسمي لولادة كرة القدم كان في شهر كانون الثاني عام 1863م في بريطانيا، كانت البداية في القرن التاسع عشر في المدارس الإنكليزية الارستقراطية جداً، وفيها فقدت ألعاب الكرة كثيراً من عنفها لمصلحة فن اللعبة نفسه وأعطت ألفي عام بعد اليونايين للرياضة قيمة تعليمية، حيث أصبحت روح الفريق مهمة جداً.
لكن اللعبة كانت لم تزل تمارس دون فرق بضرب الكرة سواء بالأيدي أم الأقدام، ثم حدث ذات يوم من أيام سنة 1823م في مدينة رجي (RUGBY) أن لاعباً اسمه وليم آب أليس انفرد بالكرة واختار عدم تركها وجرى بها حتى وضعها في هدف الخصم، ومن هنا حدث انقسام ذو فرعين رئيسيين في اللعبة من ناحية RUGBY والسوكار من ناحية أخرى وهو الاسم الذي تعرف به في بريطانيا حتى اليوم SOCCER ثم FOOTBALL ASSOCIATION، ثم أخيراً كرة القدم. ووضعت القوانين الأولى التي تم تحديدها في كمبردج في شهر تشرين الأول من سنة 1848، ولم تصل أو تتغير القوانين الأربعة عشر منذ ذلك العهد تغيراً كبيراً، بل أضيفت إليها ثلاثة قوانين أخرى، بحيث أصبح عدد القوانين التي تنظم اللعبة سبعة عشر تتولى عملية متابعتها بدقة منظمة دولية متخصصة، وكان من الطبيعي أن تمارس هذه اللعبة بعدها في البلدان المجاورة كبلجيكا وهولندا وفرنسا ثم أثناء فترة الاحتلال في الهند والعالم العربي وبلدان أميركا اللاتينية ثم أستراليا والنرويج مروراً بهنغاريا وإفريقيا، حتى تم تنظيم بطولة كأس العالم للمرة الأولى سنة 1930م.
وسرعان ما غزت هذه الكرة العالم حيث يقف اليوم مليارات البشر أمام شاشات التلفاز لمشاهدة بطولات كأس العالم، أما أصحاب الحظ السعيد فهم الذين يشاهدون شخصياً افتتاح البطولة بفضل حجزهم مقدماً ولمدة أشهر أو ربما سنوات تذكرة دخول.
قال أحد أشهر اللاعبين والمعلقين الرياضيين (ريموند دومنيك): «كرة القدم هي مجرد حرب صغيرة»، وإذا تفحصنا الجملة قليلاً فسنجد أنه لم يخطئ كثيراً، فمباراة كرة القدم حرب صغيرة فعلاً، يخرج فيها المنتصر فخوراً، والخاسر مطأطأ الرأس. المدربون يرسمون الخطط قبل بداية المباراة لتطبق فيما بعد على أرض الملعب لذلك هم يعدون طرق التكتيك والإستراتيجيات قبل خوض المباراة، والمدربون يأمرون لاعبيهم بالتصرف على أرض الملعب كالجنود، ثم بعد هذا أليست اللعبة في حد ذاتها تطبيقاً لعمليتي الهجوم والدفاع؟ وفي أثناء المباراة نرى المناورات لجس نبض الخصم ومعرفة نقاط ضعفه، كما تدرس طرق لعب الفريق المضاد دراسة دقيقة مسبقاً وقبل اللعب معه، فهي إذاً حرب.. ولكن الخاسر فيها يخرج منها دائماً قانعاً راضياً، فلا مجال هنا للانتقام، إلا في مباراة أخرى يستعيد من خلالها كرامته. ولكن يحدث أحياناً أن تتحول اللعبة من مجرد رمز لحرب صغيرة إلى حرب حقيقية، ففي سنة 1969م وبعد أن خسرت السلفادور مباراتها مع الهندوراس بهدفين مقابل ثلاثة أهداف كانت الخسارة مسوغاً كافياً لإعلان حرب لا ثمرة من ورائها بين البلدين، وقد تكلفت الحياة لأكثر من ثلاثة آلاف من البشر.
ولا يقتصر دور الجمهور في مباريات الكرة على مجرد المشاهدة إنه مكمل وضروري للمباراة نفسها، ولعله لا يقل أهمية عن دور أعضاء الفريق اللاعب، إن الجمهور يلعب في هذه المسرحية دوراً رئيسياً لا يقل أهمية عن دور البطل في مسرح للعرائس، وقد أدرك المدربون هذه النقطة من خلال مكبرات الصوت أمام الجمهور قبل المباريات لذلك كثيراً ما نراهم يصرخون: «اليوم، أنتم العضو الثاني عشر للفريق»، ما يحول أرضية الملعب إلى جحيم لا يطاق للفريق المضاد.
لقد غزت كرة القدم العالم اليوم حتى بدأت في الغرب تأخذ أبعاد ديانة جديدة بكل طقوسها ومعابدها فإستاد (ويمبلي) بلندن الذي يحوي مئة ألف مقعد معروف عالمياً عند كل اللاعبين على أنه معبد لكرة القدم. واستعمال الطقوس السحرية ليس مجهولاً لكل المطلعين على كواليس اللعبة، فمثلاً نرى الكثير من اللاعبين يقبلون الكرة كل مرة قبل قذفها، أما دخول اللاعبين الملعب فيتم حسب طقوس معينة، حيث تصطحب الفرق معها أطفالاً إلى قلب الملعب، ثم يتصافح اللاعبون، ويقبل بعضهم بعضاً، ويتهادون قمصان اللعب بعد انتهاء المباراة ما نراه من طقوس أصبحت تقليداً، بل إن بعض اللاعبين لا يقومون بحلاقة وجوههم في اليوم السابق للمباراة لأن ذلك جالب للطالع السيئ.
قال كليمنت أتلي زعيم حزب العمال قبل بدء الانتخابات البريطانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية: «إنني ذاهب لأشترك في أعنف مباراة جرت في بريطانيا لكرة القدم، وفاز أتلي وهزم تشرشل الذي كسب الحرب لبلاده».
أما لماذا غزت لعبة القدم العالم حتى تحولت الكرة إلى شبه معبود للكثير من المجتمعات؟
لا شك أن هذا يعود إلى (مبدأ التعاون) و(الأخوة المتعاضدة) حيث يبدو اللاعبون كأنهم أسرة واحدة متلاحمة تبعث المشاهد على الدفء والطمأنينة في عالم تفككت فيه الأسرة، وبدا فيه الفرد يشعر أنه وحيد في هذا الجحيم المخيف.

د. منى إلياس

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...