قاتل الكتب الورقية المتسلسل

01-01-2010

قاتل الكتب الورقية المتسلسل

الكتاب الالكتروني هو تحقيق لحلم بورخيس، بحسب إيريك اورسينا. هو إمكان حمل مكتبة كاملة في كتاب واحد صغير الحجم. كلّ تقدّم يحرزه انتشار الكتاب الالكتروني لن يكون إلا على حساب الكتاب الورقي، أي على حساب ذلك الشكل التقليدي الذي لا يسرّنا التفكير في أنه سيصبح من ذكريات الماضي في يوم من الأيام. يضم الكتاب الالكتروني، الى الكتب التي يختار كتّابها إصدارها بلا نسخ ورقية، عالماً من المدوّنات تكتنف دنيا الأدب والفكر والأبحاث والتحقيقات الصحافية المليئة بالمعلومات.

تضم المدوّنات الالكترونية المنتشرة على شبكة الانترنت كتابات ادبية وثقافية غزيرة، بعضها لأسماء مجهولة، وبعضها لكتّاب كبار اختاروا طريق المدوّنات لترويج أعمالهم. لطالما ردّد البعض القول بأن أفضل ما نعرفه من الأفكار ليس أفضل الأفكار بل فقط أفضل ما نعرفه، لأن البعض يقرر ألاّ يطرح أفكاره للتداول. مع عالم المدوّنات هناك فرصة لاكتشاف دائرة اوسع من التفكير البشري.
تزيد شبكة الانترنت من قدرة الثقافة المضادة، لأنها تلقي الضوء على أعمال وأشخاص كانوا مجهولين. من هنا تحارب الثقافة الرسمية هذا الصعود القوي لانتشار المدوّنات الالكترونية، لكنها لن تستطيع فعل شيء لأن الذي اعتاد على التحرر من كلّ الضوابط لن يقبل بالعودة الى الكتابة ضمن حدود، أيّاً يكن من يضعها.
يتوجّه الكتّاب الى أسلوب النشر عبر المدوّنات الالكترونية، لأنها تسمح لهم بنشر مواضيع لا تدخل في دائرة اهتمامات المجلات والصحف، كنشر يوميات هؤلاء الكتّاب، او لأن تحديد هذه المجلات والصحف لعدد الكلمات التي يمكن نشرها يدفع الكتّاب الى نشر كامل ما يكتبونه على مدوّناتهم الخاصة لتمكين قرائهم من الإطلاع على تمام ما يكتبون.
لكن سهولة وضع ما يُكتب على الانترنت، لا تجذب مستخدمي هذه الشبكة كثيراً الى قراءة محتوى المدوّنات، لأن كل إنسان يستطيع القيام بوضع ما يكتبه عليها، وتالياً تغيب المعايير التي تمكّن مستخدم الشبكة من التمييز بين الجيّد والسيئ. لا يزال القراء يثقون أكثر بالكتابات المطبوعة في كتب، ولا يزال إسم الكاتب وإسم دار النشر يمارسان تأثيرهما في انتقاء موضوعات القراءة.
إلا ان في كتابات بعض الهواة وعياً وتقنية كتابية لا نجدهما لدى من يعتبرون أنفسهم محترفين. هكذا فإن عالم المدوّنات كعالم الكتب، نجد فيه الغث والسمين. لكن الفارق يكمن في أن المدوّنات الالكترونية المهمّة يصعب اكتشافها، لأنه حتى الآن لم يتم ابتكار المعايير التي توجّه اختياراتنا، فيبقى الأمر في مهبّ المصادفة الى حدّ بعيد.
إمكانات مضافة للقارئ
يشتهر الكتاب الالكتروني، الذي تشكل المدوّنات احد اوجهه، باسمه الانكليزي المختصر، أي الـ"إي بوك" e-book، وقد فرض تركيبة إسمه المختصر على الكتاب الورقي الذي بات يعرف بالـ"بي بوك" p-book، وهو اسم يحيلنا على واقعة أن المكتوب محمّل على الورق papier. الخلاف بين الشكلين يأخذ في الإعتبار حامل المكتوب او دعامته. فهو "إي بوك" إذا كانت دعامته غير مادية، وهو "بي بوك" إذا كان مستمراً في الإرتكاز على الدعامة المادية الورقية في تداوله للمعلومات.
يعطي العمل الرقمي حلاً لاحتياجات القراء أكثر ارضاءً مما يقدّمه الورق. يمتلك هذا النوع من العمل مواصفات لم يكن قارئ الكتب في شكلها التقليدي يحلم بها حتى. فالقارئ بات يمكنه التدخل في النص ودمج تعليقاته الخاصة في المتون. لم تعد الفهرسة منفصلة عن إمكانات البحث، وهذا ما يوفّره الاسلوب الرقمي الذي يضيف الى عالم التعامل مع النص عنصر نقل القارئ الى حيث ترد أيّ كلمة تخطر على باله. وبات القارئ يمتلك القدرة على إبراز ما يراه هو مهمّاً في النص، وبالطريقة التي يختارها، فيتحوّل النص فعلياً عملاً مزدوجاً تلتقي فيه مقاصد الكاتب بالإضافات الخارجة عن فهم القارئ له، وينعكس هذا التفاعل على شكل النص نفسه وعلى ترتيبه.
الكتاب الإلكتروني هو منتظم مفتوح. فإلى تقديمه للقارئ القدرة على التدخل في النص، يمكّنه من إرسال محتويات هذا النص نحو محتويات أخرى او مصادر أخرى، ما يمنح الكتاب الرقمي الأفضلية بالنسبة الى مجموعات القراء الفاعلة (طلبة، باحثون، مجموعات قراءة...).
تبقى في الأساس الفرصة القيّمة التي يوفرها هذا الشكل من الكتب، وهي إمكان الوصول اليها والتمكين من التصرّف بالعمل أيّاً تكن الساعة او المكان الجغرافي.
يرى أنطوان غاليمار مدير دار النشر الفرنسية التي تحمل الاسم نفسه ان عام 2008 كان عام الوعي بالأفق الرقمي الذي لا يمكن الرجوع عنه في سوق الكتاب. وليس نادراً اليوم عقد لقاءات ومنابر حول الكتاب تسعى الى تثبيت خط الهروب للتحوّل الكامل عن المادية. لكن المنظور يهرب ايضاً من الذين يريدون رسم هذا الخط بحركة واضحة.
يتصل الكتاب الإلكتروني بمفهوم الديموقراطية. لم تعد دور النشر قادرة على استبعاد كتابات البعض عن التداول العام. فتداول الأفكار لم يعد محصوراً بما تقدّمه هذه الدور من وسائل تقليدية للتواصل مع إنتاجات الآخرين الفكرية. يستطيع كل كاتب أن يضع كتابه على شبكة الإنترنت ليتيح لمجموع سكّان الكوكب إمكان الوصول اليه.
مقاومة أم تكيّف؟
من ناحية أخرى، كتب بيار ألكسندر كزافييه في مجلة "الأزمنة الحديثة" ان إلقاء نظرة مستقبلية على السنين العشر المقبلة تقول لنا ان النموذج الالكتروني سيفرض نفسه على السوق، وسينضم اسلوب البيع على شبكة الانترنت الى الاماكن الاخرى، لا بل سيزيل بعضها. وستعاني المكتبات من انبثاق النموذج غير المادي لتوزيع الكتاب.
أما القارئ الإلكتروني، فسيفرض نفسه لا كجهاز توسّطي بل كمفهوم: مفهوم الكتاب الالكتروني، ليكون في النهاية متماهياً مع الكتاب بشكل كامل.
من هنا يرى كزافييه انه يجب على شبكات التوزيع الفيزيقية وعدّة النشر، ان تتكيف مع توزيعة جديدة ستحوّل المهن والمؤسسات والوسائل. كذلك، على الناشرين ان يواجهوا الصعود القوي للكتّاب الذين يستخدمون وسائط اجتماعية على الانترنت للتعريف بكتاباتهم وترويج انصرافهم عن الورق.
من هنا يرى ان على مهنة صناعة الكتب ان تقبل اتساع المنافسة التي يقوم بها داخلون جدد، من خلال منشقّين عن دور النشر الكبيرة وكتّاب يعلنون استقلالهم الكامل وشبكات توزيع متخصصة على شبكة الانترنت. أما التحدي الأكبر الذي يفرض نفسه على هذه المهنة، فهو انها يجب ان تواجه تعميم المجانية على الانترنت.
ويخلص الى انه ليس هناك سوى طريقتين للتعامل مع هذه التغيرات. إما ان نحاول المقاومة، وإما ان نحاول فهم التحوّل الحاصل ومتابعته من خلال التكيّف بطريقة واضحة مع الشروط الجديدة.
كتاب ما بعد حداثي
دخل الكتاب الالكتروني في صلب المناقشات ما بعد الحداثية. وقد علّقت مؤسسة "غارتنر" على التطور الحاصل مستنتجةً ان هذا الشكل من الكتب "يقدّم قراءة مطابقة لقراءة الورق، يشبه الورق ولكنه يستهلك طاقة أقل ويسمح لنا بأن نكون أكثر احتراماً للمعايير البيئية في المكتب: الورق الالكتروني يحظى بمناصرين أكثر فأكثر. وهذا ليس سوى البداية".
أما مدير موقع "سوس إي بوكز" على شبكة الانترنت غبريال غاسكون، فيرى ان الكتاب الالكتروني يحظى بميزات متعددة تجعله يتفوّق على الكتاب الورقي. فهو في رأيه يمتاز بـ"تلقائية... كلية الحضور... نفاذية... لا يبلى... سهل على النسخ... مكتبة محمولة... بحث سهل في النص... استشهادات اكثر سهولة... تعليم الصفحات ووضع هوامش... روابط متحركة وميتا قراءة... مرئي ومسموع... تركيب صوتي... تدريب مباشر... الوان وتوضيحات... سهل على التغيير... نستطيع قراءته في العتمة... صديق للبيئة... يسهّل التعليم... نستطيع تكييف شكله... بعض الكتب لم تطبع إلا كإي بوكز...".
يطرح البعض التساؤلات حول مستقبل الكتاب ومستقبل القراءة في ظل التحوّل نحو الرقمية. ولكن يجب ألاّ ننسى: "إي بوك" او كتاب ورقي، مستقبل الكتاب سيكون هو مستقبل القراءة. ومستقبل القراءة نفسه يواجه تحديات جدّية، ففي دراستين، الاولى نفِّذت في الولايات المتحدة الاميركية، والثانية في فرنسا، ظهر أن القراءة في تراجع، أقلّه في أشكالها التقليدية. أما في العالم العربي، فواقع القراءة مأسوي، في ظل تداول معظم إنتاجات الكتاب العرب عبر الكتب الورقية. ولكن هذا لا يعني أن تداولها في أشكال رقمية سيحسّن هذا الواقع.
السفر مع المكتبة
المدير العام لـ"سوني فرانس" فيليب سيتروين، الذي تُعنى شركته بتجارة أجهزة قارئة للكتب الألكترونية وتسويقها، يقول ان الـ"إي بوكز" تروق للناس الذين يسافرون وللقراء الكبار. لكن المشكلة الوحيدة التي يواجهها القراء في رأيه هي أنهم يتحدثون عن "الكبت الذي يتسبب به النقص في العناوين المتاحة".
يتحدث البعض عن "بداوة دوائر المعلومات" ويقصدون بذلك الحقبة الجديدة التي تمتاز بالحركية. فـ"البداوة" هذه هي مفهوم اساسي لبداية القرن الحادي والعشرين، يقترح على الجميع الوصول الفوري الى المعلومة، على كل مساحة الكوكب، من دون عقبات فيزيائية او ميكانيكية او جغرافية.
يشكل الترحال الدائم مصدر جاذبية الكتاب الإلكتروني، فهو الوسيلة التي تمكّن الإنسان من الترحال برفقة النصوص التي يحبّها. يقول ايريك اورسينا: "الإي بوك هو وسيلة غير مألوفة لأولئك الذين، كما انا، يحبون في الوقت عينه الكتاب والسفر. لديكم كل الكتب في كتاب واحد. هذا هو حلم بورخيس الذي اصبح واقعاً: مكتبة بابل في متناول اليد، أكنتم في عرض الكاب هورن أم في العمق النهائي لكاماشاتكا" ¶

حسن عبّاس 

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...