عن الآيل للانقراض تحت ظلال الفساد

05-10-2006

عن الآيل للانقراض تحت ظلال الفساد

الجمل ـ سعاد جروس : مع انقضاء مهلة دفع فواتير الهاتف والبدء بقطع الخطوط, تشهد مراكز خدمة الاتصالات دائماً الازدحام ذاته, يتكرر كل شهرين, فيهرع المشتركون إلى مقاسم الهاتف بالعشرات, كل منهم يسارع إلى التسديد قبل انتهاء الدوام كي يتم وصل خطه بعد الدفع مباشرة. وكل مرة هناك تنويع بسيط على المشهد لا يُغير عادة من رتابة الروتين الراسخة في أي مكان في مؤسسات الدولة, لكن هذه المرة كان ثمة مفاجأة سارة تنتظرنا في مقسم الجلاء, حادثة بحجم عود ثقاب مزق بصيصه الظلام, وشجعنا على الاستمرار في لعن الظلام!!
كان هناك ثلاثة طوابير طويلة امتدت أمام ثلاثة صناديق, حين دخلت سيدة عجوز بالكاد تمكنت من الوصول الى المقسم لتسديد فاتورتها. احتارت بأي طابور تقف, كان انتظار حلول دورها لا يقل عن نصف ساعة من الزمن, كما لا يوجد كرسي ترتاح عليه, وقفت وقد بان عليها التعب والارتباك, ماذا تفعل؟ لم تتوقع أن تأتيها النجدة من موظف كان يراقب عمليات التسديد وانتظام الدور. طلب منها الموظف أن تدخل إلى غرفة جانبية فيها صندوق للتسديد وعدة مقاعد جاهزة لعجائز وسيدات ينتظرن مثلها الدور. فرحت العجوز بهذه المبادرة اللطيفة, وارتأت بعد أن ارتاحت ودفعت فاتورتها, تكريم الموظف فانتحت به جانباً لـ«تكبس» يده بإكرامية مما قدرت على دفعه, فما كان من الموظف إلا أن شكرها وهو يضحك, وربت على كتفها معتذراً بكل تهذيب عن قبول الإكرامية, قائلاً بصوت مرتفع متعمداً أن يسمعه الموجودون في المكان: «هذا لا يجوز يا خالة, نحن هنا لا نأخذ شيئاً من أحد, أنا مدير المركز وأؤدي واجبي». كان كلامه مفاجئاً للجميع, ليس لأنه لم يقبل الإكرامية من سيدة قالت بأنها وجدت مساعدته لها «قدّ الدنيا», لكن لأن موظف دولة بحجم مدير مرموق يدير مقسم اتصالات أرقى أحياء دمشق, يتنازل وينزل الى البهو ليراقب عملية تسديد الفواتير ويساعد المشتركين المسنين بكل احترام وأدب وأخلاق, زعزع ما ألفناه مما درج عليه موظفونا في دوائرنا الميمونة الذين لا يضحكون للرغيف الساخن, ويبلصون الإكراميات من عين المواطن بلصاً دون حياء, بعد أن غيرت الرشوة حلاسها وصارت حقاً مكتسباً وشرعياً, لها أصول لا يمكن تجاوزها, فلكل شيء ثمن, ولكل موقع تسعيرة وسقف, بدءاً من الفراطة فرق الفاتورة إلى دفع فواتير صفقات لا سقف ولا غطاء لها.
قواعد لا يمكن تقبل نقيضها, كتصرف مدير مركز الهاتف مهما كان صغيراً أو عابراً أو بالمصادفة البحتة, وعلى مثاله, إذ الشيء بالشيء يذكر, تصرف مسؤول عن منح الرخص في مديرية الموارد المائية بحمص, ومعه زميله المسؤول عن الرخص في الخدمات الفنية, لم يكتفيا بعدم تقاضي رشوة لقاء منح ترخيص لصاحب إحدى المنشآت الصناعية الصغيرة في ريف المحافظة, بل أنهما بعد وضع التوقيع الأخير, وقفا وهنأا طالب الترخيص وعبرا له عن تمنياتهما بنجاح المشروع والتوفيق!! هذا التصرف وضع عقل المواطن في كفه, فهما الوحيدان اللذان يثقل توقيعهما بالذهب ولم يطلبا شيئاً, فيما لم يوفر أي موظف آخر المطالبة بالإكرامية مع تكشيرة وقرف, جعلت المواطن نفسه طالب الرخصة يلعن الساعة التي ولد فيها في هذه البلاد, إلا أن تهنئة الموظفين جاءت لتغسل همه وتعبه, وتنسيه دوخته السبع دوخات, وخسائره المجانية في الرش هنا وهناك.
هكذا مواقف, وإن كانت الاستثناء الذي يؤكد القاعدة, تكتسب أهميتها من خروجها على المشهد العام, بالمعنى البلدي «نيئة عن الخليقة», والخليقة عموماً في بلادنا تعايشت مع الفساد أو تشربت به, فشبعت وتشبعت, ولم تعد تزكم أنفها رائحته الكريهة, ربما لأنها لم تعد تشم غيرها, بل أنها لو تنسمت رائحة نظافة تصاب بالغثيان, ولا تبخل على الإنسان النظيف بأوصاف ألطفها غشيم, لأن معيار نظافة الكف لا علاقة له بمبدأ الكسب غير المشروع, وإنما بحجم هذا الكسب. فإذا كان الفاسد قنوعاً ونهب فيلا وسيارة وحساباً بالملايين فقط, واستثمره بعد مغادرته المنصب, يكون نظيف الكف وبنى نفسه بنفسه هو وأبناؤه وأبناء عمه وجيرانه وكل من جاز التقرب إليه وحكى باسمه.
ومن حسن الفطن أن الدراما السورية هذا العام قاربت عالم الفساد, ووضحت لنا مشكورة أن بعض المتنفذين النافذين من الراسخين في هذا المجال, لديهم معيار آخر للنظافة يقاس بمدى علمهم أو عدم علمهم بما يفعله أبناؤهم من وراء ظهورهم. ففي أحد المسلسلات يُفاجئ مسؤول مهم بامتلاك ابنه لأسطول سيارات خاص به, طبعاً الأب هنا لا يسأل ابنه من أين لك هذا, لأن الابن أقنعه بأنه استأجرها, يعني ممكن يكون أستأجرها ببلاش كرمى لسمعة الوالد, وهذا الابن يصول ويجول ويطيح برقاب العباد, وكل ذلك من خلف ظهر الوالد الولاّد!! فكرة عدم علم الآباء بما يفعله الأبناء مُررت في أكثر من مسلسل, ولا ندري بالضبط, ما هو السبب هل هو تبرئة للمسؤولين من فساد الأبناء, أم هو إدانة لهؤلاء الذين لا يدرون بما يدور في بيوتهم؟! وإذا كانت الفكرة صحيحة وتستند الى الواقع, فالاحتمالان يقودان إلى السؤال, كيف يمكن لمثل هؤلاء الآباء المسؤولين أن يُسألوا عن مصالح البلاد والعباد, إذا كانوا لا يعلمون بتجاوزات أبنائهم التي باتت قصصاً تروى في الروايات والمسلسلات, أو إذا كانوا على هذا المستوى من الفساد الذي يتيح لأبنائهم التسلط والاستبداد على نحو نرى فيه العجب العجاب الى حد تفقد فيه أساطير الفساد أسطرتها, وتفقد أهمية الكتابة عنها, كما هي الحال مع خبر تجميد أموال مسؤول طالما انتظرنا سماعه, وحين أُعلن عنه لم يعن لنا الخبر شيئاً, بينما أسعدنا جداً موظفون بسطاء يتقون ربهم في الناس والمواقع التي يحتلونها, فباتوا الشواذ المثير لشهية الكتابة والتنويه والتنبيه, وأصبح المطلوب الدفاع عنهم وحمايتهم من المستنقع الذي ينبتون فيه بالخطأ, خشية معاقبتهم كما جرى مع مدير في إحدى الدوائر الحمصية التابعة لوزارة الزراعة, الذي استبعد من موقعه لأنه كـ«التيس لا يأكل ولا يطعمي».
ربما علينا أن نستمر في لعن الظلام, فاختراع عيدان الثقاب من سوء حظ العباد آيل إلى الانقراض.
 

 

بالاتفاق مع الكفاح العربي

إلى الندوة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...