ريموند تاليس يرسم خارطة الفجوات بين اللغة والواقع

24-04-2014

ريموند تاليس يرسم خارطة الفجوات بين اللغة والواقع


الجمل ـ ريموند تاليس ـ ترجمة: عمار سليمان علي:


"قلم الشاعر... يعطي للعَدَم مكاناً محدداً واسماً."
(حلم ليلة صيف, الفصل 5, المشهد 1)
دانييل دينيت Daniel Dennett هو واحد من أولئك المفكرين الذين يجعلونك ممتناً لأنك على قيد الحياة ولأنك تتفلسف. إنه يكتب بشكل جميل, مستخدماً اللغة بطريقة غنية ومبدعة, ويعرض آراءه بشكل واضح وظريف. بالإضافة إلى أنه ـ أو هذا ما أظنه ـ مخطئ بشكل منعش في شأن بعض القضايا الهامة جداً.
على سبيل المثال, هو يقبل بنسخة معدّلة من نظرية وحدة العقل ـ الدماغ  التي تنظر إلى العقل ـ الدماغ من منظور المصطلحات الكمبيوترية. هذا يستدعي منه أن ينكر وجود بعض العناصر الأساسية للوعي مثل الخبرات أو المشاعر الذاتيةqualia  , وأن يضعف الأنا إلى مجرد بنية مماثلة لـ "مركز الجاذبية". إنه كذلك يعتنق فكرة سبق لي أن سميتُها "الداروينية Darwinitis" ـ أي تصديق أن نظرية داروين الهائلة لا تشرح فقط نشأة الكائن الحي الإنساني (الأمر الذي تقوم به طبعاً) بل إنها أيضاً تشكل المفتاح لفهم طبيعة النفوس البشرية. وهو يملأ الفجوة الواسعة بين جذورنا البيولوجية وأوراقنا الثقافية بالميمات memes, وهي وحدات نقل ثقافية اعتبرت بشكل مراوغ مماثلة للمورثات التي هي وحدات نقل حيوية.
ثمة اختلافات أخرى بيننا. على سبيل المثال, يبدو أنه يعتقد أن اللغة ضرورية للوعي ـ رغم أن المرجح بالنسبة لي هو أننا يجب أن نكون واعين من أجل أن ننتج المعاني المقصودة التي تميز اللغة الإنسانية. من معتقداته الأخرى أن الوضعيات الافتراضية مثل معتقداتي توجد فقط إلى المدى الذي تُنسب فيه إلى آخرين يحاولون أن يستشعروا سلوكي ـ بالرغم من أن هذا يترك وضع معتقده الخاص أقرب لليقينيات منه للمشكوك فيه.
يمكنني أن أستمر في هذا, لكن اختصار تفكير دينيت ـ الممتد على مدى عقود ـ بهذه الطريقة هو أمر ظالم لعمل متماسك, ومطروح بذكاء. في الحقيقة, هو اتهمني مع آخرين ممن لم يشاركوه رؤاه حول العقل الواعي, والنفس البشرية, ومفاهيم أساسية أخرى, بأننا نرسم فكره كاريكاتورياً أكثر مما نتمعّن فيه. لذلك سوف أنصحك بقوة أن تعمّد نفسك في كتابه الكلاسيكي "تفسير الوعي Consciousness Explained " (1992) وأعماله الأحدث مثل "تطور الحرية Freedom Evolves" (2003). بعد هذا عليك أن تقرأ سجالاته المؤلمة مع جون سيرل John Searle في مجلة "استعراض نيويورك للكتب New York Review of Books" (1995), وقد جمعت في "لغز الوعي Mystery of Consciousness" (1997), لكي ترى لماذا يترك الوعي بدون تفسير. إذا كنت شرهاً  للقسوة, فإن كتاب ريموند تاليس "الإنسانية المقلدة: الهوس العصابي بالداروينية وتشويه الإنسانيةAping Mankind: Neuromania Darwinitis and the Misrepresentation of Humanity (2011) سيمكّنك من اكتشاف لماذا كان دينيت وسيرل كلاهما مخطئَين (بطرق مختلفة).
الأشياء التي توجد
كل ما سبق غايته التمهيد لأمر قريب من قلبي, وأعتقد أنني ودينيت متقفان حوله. ففي مقالته الرائعة "المصالح والقوى" (تعليق في الملحق الأدبي لمجلة التايمز, 2 آذار 2012) يعكس دينيت مهمة الفلسفة بشكل عميق. إنه يطرح في إحدى الفقرات وجوب تسوية الخلاف بين الصورة العلمية للعالم وبين ما يسميه الفيلسوف الأميركي ويلفريد سيلارس Wilfrid Sellars "الصورة الظاهرية" ـ كيف تبدو الأشياء بالنسبة لنا, وكيف يبدو أننا نختبرها, عندما نكون غير عارفين بالفيزياء. تبعاً للصورة الظاهرية في الكون, تتحرك الشمس عبر السماء؛ الاختلافات مطلقة وغير نسبية بين فوق وتحت, وبين الحركة والسكون, وبين الماضي والمستقبل؛ الأغراض مثل الكراسي  جامدة طول المدى؛ وكل شيء هناك يوجد في حالة معينة وموقع معين. علمتنا خمسمائة سنة من العلم أنه ليس ضرورياً أن تكون الأشياء كما تبدو عليه, مع أنه من الصعب أن نرى مباشرة أن الأمر كذلك.
من وجهة نظر دينيت, يجب أن تكون الفلسفة إلى جانب العلم طبعاً, وأن تساعدنا على الشفاء من علم النفس الجَماعي ـ الفطرة السليمة غير المتطورة التي يصعب التخلص منها عندما نتمعّن في قضايا مثل طبيعة العقل الواعي وعلاقته بالدماغ. لا أظن أن الفلسفة يجب أن تكون تابعة للعلم, لكنني أشارك دينيت في طموحه لاكتشاف طريقة لتسوية الخلاف بين الصور الظاهرية والعلمية للكون, وأعتقد, مثله, أن هذا يجب أن يشمل التقاط علم وجود الحياة اليومية (دراسة ما هي أنواع الأشياء الموجودة).
يطرح دينيت بطريقة مقنعة أننا ينبغي أن ننتبه إلى "المجموع الوافر للأشياء المرشحة لأن نجدها في الصورة الظاهرية." بفعله هذا, هو يمضي بشكل واعٍ عكس التيار الميال لاختصار الكون إلى عدد قليل من أنواع الكيانات الموصوفة في معظم المصطلحات العامة. من بعض الجوانب, تشبه مطامح هذه الفلسفة الاختصارية تلك التي للعلم, الذي يهيّئ "الوفرة المبعثرة للتدوين العلمي, بوضع كل شيء أخيراً في مصطلحات الذرات والفراغ, ونقاط الزمكان, أو (بمسارات اختصارية مختلفة نوعاً ما) المواد والأكوان, والأحداث والخصائص والعلاقات."
الفلسفة التي تهدف إلى تبسيط العالم بهذه الطريقة المختصرة تجر دائماً إلى إشكاليات, لأنه يصعب تعريف بعض هذه الفئات الأساسية بطريقة واضحة وربطها ببعضها البعض على نحو ملائم, وكذلك لأن ادعاءها بالتعددية يبدو متهافتاً إلى حد ما. كما أشار ويلارد ڤان أورمان كواين W.V.O. Quine, يشتمل علم وجود الحياة اليومية على عناصر, مثل "المصالح" و "المسافات", التي تحبط محاولات الحد الأدنى  لعلماء الماورائيات التوّاقين للارتقاء ما فوق وضعهم المعرفي (يُحدّد بالثقافات الشخصية والعصور واللغات والأنظمة وهلم جرّا) إلى رؤية شاملة تجعل الكون, أو على الأقل كل شيء يعرفونه فيه, قابلاً للنقل العقلي. التعاون الوثيق, الفُتات, وقصات الشعر, لنأخذ ثلاثة من أمثلة دينيت, قد تبدو غير جديرة بأية أهمية علم وجودية, وربما يمكن تجاهلها؛ لكن بعض العناصر غير الملائمة, مثل " الحُفر", تثبت استحالة الاستغناء عنها. بغض النظر عن كونها أشياء تجريدية, تمتلك الحفر قابلية مدهشة لأن تلعب دوراً في الأماكن الموضعية والواقعية, وتجعل المارة الطائشين عرضة لخطر حقيقي وموجود. لا أحد يسقط في مفهوم مجرد, أو في عتمة كلمة.
وراء الاستكشاف المسلي لـ دينيت لعلم الوجود اليومي, هناك السؤال الفلسفي العميق حول إلى أي مدى علينا الانسياق في عزو الشيئية, المعرّفة بأسماء إفرادية, إلى عناصر غير تلك التي أشار إليها هازئاً الفيلسوف ج. ل. أوستن J.L. Austin  كـ "ملابس جاهزة قياس وسط" [أي أغراض جسدية يومية]؛ أو إلى مدى علينا توسيع "الخامات", المعرّفة بأسماء جَماعية, إلى ما وراء مواد مثل "أرض" أو "ماء" أو "هواء". هناك كينونات عديدة لا تتلاءم بشكل مريح مع علومنا الوجودية  القياسية. الأحاسيس والأفكار, كما أشار ويتجنستن, ليست أشياء, لكنها أيضاً ليست لا شيء. والزمن كذلك هو الآخر شيء ولا تصنيف له, مع أن المحاولات لوصف عالمنا بدونه - بالرغم من الطموحات المسعورة للفيزياء المتطورة ـ كانت غير مقنعة (لكي نكون متساهلين).
علوم وجود الحياة اليومية المتسمة بالترف
هذا لا ينبغي أن يثبطنا عن تأمل ـ والابتهاج بـ ـ علوم وجود الحياة اليومية المتسمة بالترف. بالطبع, كما أشعار شكسبير, بعض الفلاسفة مولعون جداً بالإضافة إليها ـ مانحين تسميات لـ لا أشياء وهمية, ومن ثم باحثين عن مكان مناسب لها. أنا مولع بشكل خاص بـ "مسوخ نيس ness": عناصر يبدو أنها مكثفة في شيءٍ ما يشبه الوجود الواقعي بواسطة إضافة "نيس ness". مثالي المفضل هو "العدم", واحد من الازدواج المَسماوي في تحفة جان بول سارتر Jean-Paul Sartre الوجود والعدم (1943). بدون العدم, لن يكون الوجود بشكل واضح من أجل نفسه (كما هي الكيانات الواعية) أو - بشكل مغاير - في نفسه,  كما في حالة الأغراض المادية المقابلة للكيانات الواعية. بالنسبة لسارتر, يفتح العدم ثغرات واسعة في امتلاء الوجود الذي يمكّن الكيانات الواعية مثلك أنت ومثلي أنا من أن نتصرف ضمن الوجود, في عالم هو عالمنا.
إذا كان ذلك يبدو عملاً كثيراً يضطلع به العدم, فلنفكر بالفراغ الكمّي, الذي تؤدي عدم استقراراته, حسبما أُخبرنا, إلى تحويل العالم كله من لا شيء إلى شيء. رُعب الفلاسفة التحليليون من المعالجة الوجودية لـ لا شيء وشيء. جَمع رودولف كارناب  Rudolf Carnap بعض الأشياء التي قيلت حول اللا شيء في عمل مارتن هيدجر Martin Heidegger عام 1929 ما هي الماورائيات؟ (تبلغ أوجها في البصيرة "اللا شيء ذات نفسه لا شيء") وهزئ بها. يعطي اللا شيء, على كل حال, مصداقية للفيزياء المتقدمة, مانحاً إياها مزيداً من السمعة المحترمة. ازدواجية معايير أم ماذا؟
هناك بعض المصطلحات ـ بعض الأسماء والعبارات ـ التي ليس لها إمكانية واضحة للتوافق مع أشياء. إنها ما يمكن أن ندعوه " بضاعة شقوق لغوية", مصممة لملء  الشقوق بين مناطق منقوشة بالتعابير. من هذه المصطلحات الرموز التي تبدو كأنها تفسح نصف طريق بين اللغة والعالم خارج اللغوي. قائمة محتويات منزلي سوف لن تحتوي أبداً على "كذا thingumabobs"؛ وسيكون من الصعب أن أبيع "مذا gubbins", أو "وحدات معلومات bits" (مع أو بدون "إيماءات bobs") على موقع المزادات eBay, لكننا لا يمكن أن نعمل من دونهم. وأين سنكون من دون "هذا" و"تلك"؟.
انشغلت الفلسفة الغربية بالكليات التي تشير لخاصيات يبدو أنها موجودة في العالم الخارجي, لكنها على الرغم من ذلك عاجزة عن الوجود المستقل بشكل كامل. لنأخذ على سبيل المثال المساواة, أو الجودة, أو الجمال. يمكن أن نرى الكليات ككينونة ضعيفة أو غير كافية في علم الوجود, أو نعتبرها بعيون مثالية متسامحة كينونة جيدة ـ ربما أثيرية جداً نتيجة لوجودها قريبة من عقلنا الثابت والسرمدي ـ لكي نحيا في واقع اعتيادي للعالم ذي القدرات الموجودة صدفة والقائمة بذاتها. ثمة مفردات أخرى توجد فقط في اللغة, عاجزة عن الحياة خارج العبارات؛ مثلاً, معاني عبارات الأسماء مثل "الاتجاهات الاقتصادية" و"المفهوم المتطور للإحسان في الفكر الغربي". تبدو كلمات عديدة, مثل المكوّنات المعجمية المقصوصة والمنحوتة من فضاء دلالات الألفاظ المتعدد المستويات, معرضة لخطر التحول إلى لا أشياء ممتلئة بالتفاهة, حتى عندما تكون موضوعة في منظومات ثابتة نسبياً ومفرّغة من قطرات الحبر. قد تصلح كمثال كلمة "أشباح", هذا ما أرجوه.
اللا أشياء
الفلاسفة مسكونون بشبح "التمدية: اعتبار المجردات مواداً reification", خطأ التفكير بأن الكلمات ترمز دائماً إلى أشياء؛ حتى التعابير التجريدية لها smidgeon من الشيئية thinginess, مقبض باب/دفتر علم الوجود, من نوع العناصر التي نجلس عليها, أو نرميها من النافذة. التمديةReification   جعلت الكثيرين يتجهّمون, لكن لن تكون هناك تجاعيد/أثلام أعمق من تلك التي في جبهة الرياضي والفيلسوف والمهندس البولوني ألفرد كورزيبسكي Alfred Korzybski (1879 – 1950) الذي استحوذت عليه الفكرة لدرجة الوسواس.
حاول كورزيبسكي أن يبرهن أن معرفتنا بالعالم تُحدَّد ليس فقط بالأجهزة العصبية (الحقيقة البديهية التي ليست الحقيقة الكاملة, وإلا كنا غير قادرين على تجاوز أجهزتنا العصبية لرؤية الحدود التي تفرضها علينا) ولكن أيضاً ببنية اللغة. العالَم الذي يُرى بعدسة اللغة هو فسيفساء من الأفكار التجريدية. إن ميلنا للخلط بين هذه الأفكار التجريدية وبين الواقع بحد ذاته - فشل في معرفة أن الخريطة ليست هي الأرض – كان هو السبب في "لا سلامة العقل المزمنة". كانت النزعة الثقافية التي أطلقها, علم دلالات الألفاظ العامة, مكرّسة للنزاع مع النقد الحديث.
لاحظ كورزيبسكي قدرة اللا أشياء الوهمية على تشكيل الطريقة التي نفكر بها في العالم, وبناء على ذلك كيف نتفاعل مع كل منها. الأفكار التجريدية هي بمثابة الوكلاء لتلك القوى الاجتماعية التي حددها عالم الاجتماع اميل دوركهايم Emile Durkheim بكونها قوى فعالة في الحيوات الإنسانية مثلها مثل قوى الفيزياء في عالم الطبيعة. تمكننا القدرة على تصنيف محتويات العالم من النظر أبعد, إنما مع الكلفة الباهظة للنظر الزائد, يضغط على الأصناف الشاملة للوقائع الشخصية بحيث يرفعها فوق العالم المادي بينما هو يحبسها في صنف اجتماعي ـ لغوي. في كلامنا حول العالم نحن حكماً نبسّطه – ليس أصغر من أن ندعوه "العالم" وأن نشير إليه كما لو كان شيئاً ما يمكن الكلام عنه.
لقد شردتُ عن طريق دينيت, لكن غايتي هي أنه يوجد متعة واحدة فقط أكبر من تضارب الرأي مع فيلسوف يحبه المرء. إنها متعة اكتشاف مجال الاتفاق. نحن كلانا بأسلوبينا المختلفتين نحب الترف والتعقيد في العالم ونقدّر الجهد النبيل للارتقاء إلى نسخة مختصرة منه دون تبسيطه. وربما يمضي هذا التوافق كي يصبح أكثر عمقاً من خلافاتنا العديدة. 


المصدر: موقع مجلة الفلسفة الآن http://philosophynow.org/ 

التعليقات

حتى التعابير التجريدية لها smidgeon من الشيئية ترجمتها: حتى التعابير التجريدية لها قدر ضئيل من الشيئية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...