رسائل «الخليفة» في ظهوره الأول

07-07-2014

رسائل «الخليفة» في ظهوره الأول

سجّل الظهور العلني لأبي بكر البغدادي نقاطاً في سجل تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») الذي يسعى إلى تكريس نفسه دولةً تمثل الخلافة الإسلامية، وحملت وقائع وتفاصيل الظهور الأول للبغدادي، في الشريط المصور الذي ما زال المتابعون يحققون في هوية الشخص الحقيقية، رسائل هامة في أكثر من اتجاه، في الوقت الذي تتسع فيه سيطرته على مناطق واسعة من سوريا والعراق، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن توقيت الظهور ومدلولاته.
لم يكن قرار «داعش» الإفراج عن صورة زعيمه ونشرها على العلن عبر مقطع فيديو بعد طول تستّر وكتمان أمراً مفاجئاً، إذ سبقت القرار توقعات عدة بهذا الخصوص. وكنا قد ذكرنا نقلاً عن مصدر مقرب من «داعش» أن «البغدادي، أو الخليفة إبراهيم عواد البدري، يستعدّ لتسجيل خطاب سيكون للمرة الأولى بالصوت والصورة». وأشارت إلى أن «الظهور العلني قد يأتي في أي وقت ومن غير المتوقع أن يتأخر كثيراً». وإذا كان التسجيل الصوتي الذي صدر في اليوم التالي تحت عنوان «رسالة إلى المجاهدين والأمة الإسلامية في شهر رمضان» خيّب التوقعات السابقة، إلا أنه سرعان ما تبين أن كواليس «داعش» كانت بالفعل تشهد انهماكاً كبيراً للإعداد لخطوة غير مسبوقة في تاريخه هي كيفية إخراج الظهور الأول لأميره الذي أصبح «خليفة».
واقتضى الإخراج الذي يسهلالبغدادي خلال إلقائه خطبته في الموصل يوم الجمعة الماضي (أ ب أ) استنتاج أنه جاء متقناً من حيث الشكل والمضمون، أن يظهر البغدادي للمرة الأولى وهو يلقي «خطبة الجمعة» الأولى من شهر رمضان، في «المسجد الكبير» في مدينة الموصل بحضور المئات من المصلين الذين يعتقد أنهم ممن بايع البغدادي في وقت سابق. ولا شك في أنّ القائمين على هذا الإخراج أرادوا توجيه العديد من الرسائل الصريحة والضمنية في اتجاهات عدة وإلى متلقّين عديدين في وقت واحد.
فمدينة الموصل التي شهدت أول ظهور للبغدادي كانت قد خرجت عن سيطرة الحكومة العراقية الشهر الماضي وسط تضارب مقصود من قبل وسائل الإعلام حول الجهة التي فرضت سيطرتها عليها. وبالتالي فإن اختيار أحد مساجدها ليلقي البغدادي فيه أول «خطبة جمعة» علنية له يتضمن رسالة غير خافية أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يعتبر المدينة ولاية خاضعة لسيطرته ويطلب من الجميع التعامل مع هذا الواقع بعيداً عما يقوله الإعلام حول قيادة من يسمّيهم «ثوار العشائر» أو «المجلس العسكري» لعملية الهجوم على الموصل. وأكثر من ذلك يمكن الاستنتاج من اختيار «المسجد الكبير» في الموصل، أن التنظيم يسعى إلى ترسيخ الموصل كعاصمة لدولته العتيدة خلافاً لما قيل من قبل حول إضفائه هذه الصفة على مدينة الرقة في سوريا، لتتغلب بذلك النزعة العراقية لدى قيادته التي تريد في الوقت نفسه اللعب على حلم استعادة «خلافة بغداد» التي كانت تاريخياً عاصمة العباسيين.
كما أن اختيار «المسجد الكبير» بالذات ينطوي على رسالة ضمنية اختلفت الآراء حول قراءتها. فأنصار التنظيم يروجون لحقيقة أنّ «المسجد الكبير» بناه نور الدين الزنكي في القرن السادس الهجري، وبالتالي يريد «خليفتهم» أن يقول إنه سيقتدي بسيرة هذا القائد التاريخي وصولاً إلى هدف تحرير القدس المحتلة. بينما يتخوّف آخرون من أن تكون الرسالة هي نية البغدادي خوض معارك وحروب في محيطه العربي والإسلامي بذريعة توحيده كما فعل الزنكي، وبالتالي تهديد المنطقة بالمزيد من الفوضى والخراب التي لا يعلم أحد كيف يمكن أن تنتهي، لاسيما أنه لا يمكن قياس الظروف الإقليمية والدولية في عصرنا هذا بالظروف التي عاش في ظلها الزنكي.
ومن حيث الشكل، فإن اختيار البغدادي ارتداء العباءة السوداء في الظهور الأول له من شأنه تعزيز صحة الاستنتاج بوجود نية لديه في استدامة العنف والفوضى في المنطقة. فاللون الأسود يرمز إلى حالة الحرب والقتال، وكان الخلفاء والأمراء تاريخياً يلجأون إلى ارتدائه في هذه الحالات، ويستذكر أنصار التنظيم في سياق قراءتهم مدلولات الشكل رواية تاريخية تتحدث أن الرسول محمد كان يرتدي عباءة سوداء عند فتح مكة.
وقد تكون الرسالة الأهم التي أراد البغدادي توجيهها مبطّنة في اختيار توقيت ظهوره العلني الأول، فلماذا الآن فقط يظهر البغدادي؟ ولماذا لم يقرر الظهور سابقاً برغم أن الرقة كانت توفر بيئة آمنة له ولكبار قادة تنظيمه؟
 يلاحظ بدايةً، أنّ ظهور البغدادي جاء بعد أيام فقط من إعلانه «خليفة للمسلمين»، وكما سبق القول كان من المتوقع أن يظهر بعد هذا الإعلان، ولكن ينبغي التنبه إلى أن ما جرى في ريف دير الزور خلال الأسبوع الماضي قد يكون له علاقة وطيدة مع إعلان الخلافة ومع توقيت ظهور البغدادي. فقد شهدت مدن وبلدات ريف دير الزور انقلاباً مفاجئاً استطاع من خلاله «داعش» أن يفرض سيطرته على كامل هذه المدن والبلدات من دون قتال يذكر، فهل خطط التنظيم لهذه اللحظة من قبل؟ ترجح المعطيات المتوافرة أن ما حدث في دير الزور من مبايعات مفاجئة وتسويات واتفاقات جانبية مع الفصائل والعشائر انتهاءً بسقوط مدينة الشحيل التي ترمز بشكل أو بآخر لسقوط «جبهة النصرة» وانتهائها كما نعرفها، كانت كلها تجري وفق وتيرة متسارعة يُراد لها أن تتزامن مع لحظة الظهور الأول للبغدادي. وغاية ذلك محاولة إعطاء زخم جدي لهذا الظهور بالاستناد إلى إنجازات ميدانية كبيرة توحي بتمدد «الدولة» وربطها بين جانبي الحدود العراقية ـ السورية، وانضمام الكثير من زعماء العشائر والمقاتلين إليها.
لذلك لم يظهر البغدادي في الرقة برغم الظروف الأمنية المواتية، فالسيطرة على الرقة وحدها لا تجعل منه لاعباً إقليمياً، أما وقد سيطر على الموصل في العراق ووصل بينه وبين الرقة عبر ريف دير الزور، وقارب عناصره الإشراف على حدود أكثر من دولة مثل الأردن والسعودية، فقد شعر أن الوقت حان لإجراء تغيير شكلي يتوافق مع التغييرات الميدانية التي أعطته، حسب رأيه، ثقلاً جديداً، فكان ظهوره العلني ليقول للمنطقة والعالم: نحن في مرحلة جديدة وأنا هنا.. لاعب أساسي فيها!
ويبقى السؤال: ما هو الردّ الذي سيتلقاه البغدادي على رسالته هذه؟

عبد الله سليمان علي

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...