ذكـراك التـي تهـب مثـل ريـحٍ بـلا ذئـاب

05-01-2011

ذكـراك التـي تهـب مثـل ريـحٍ بـلا ذئـاب

إذن هو الموت يا زهير. الموت الصاعق الذي يضرب دفعة واحدة وبلا مقدمات. الموت الرحيم الذي لا يريد لضحيته أن تتآكل في فراشها ببطء او أن تتضاءل بالتدريج بين نظرات المشفقين ومباضع الأطباء. فمن كان بمثل صلابتك لا يطاله الموت الا بقلم مباغت في القلب أو بطعنة في الظهر تشبه الاغتيال.
إنه الموت يا زهير غانم الذي لم يكن أبداً في حسبانك ولم يكن مبرمجا في جدول يومياتك، وكيف لك أن تفعل ذلك وأنت المتوثب أبدا كالنمر في أدغال التهيؤات، والموشح بسمرة القراصنة وهم يبحثون عن طرائدهم في أعالي البحار وفي لمعان النحاس الذي لا يصدأ. أنت الأعزل من كل شيء الا من الشعر، فيما الشهوات تعول في بؤبؤي عينيك مثل ريح بلا ذئاب. أما وسامتك الرجولية البادية في ملامحك وتغضنات وجهك فكانت موزعة بالتساوي بين أغمار الحنطة وتلحظ الشبق في عيون النساء الجائعات إلى الحب. ولأنك كذلك فقد زينت لك نفسك أن تهيم على وجه العالم مثل «زكريا المرسنلي» في روايات حنا مينة، محولا روحك إلى عاصفة وجسدك إلى شراع.
لم يكن غريباً إذاً ان تختار بيروت من بين جميع المدن موطئاً لقدميك وميناء لقلبك الرجراج كسفينة بلا هدف. ولأنها المدينة التي تضارعك في الشهوة وتضاهيك في الصبر على الألم أشحت بوجهك عن نحيب الزيتون في جلول «بسنادا»، منحدراً من جبال العلويين التي تسند ظهر الشاطئ السوري، مقايضاً بهواء بيروت الجارح طفولتك وأهلك ومرابع صباك ومنحازاً بكامل تشردك إلى حرية باهظة الثمن إلى حد الارهاق. ولم تكن في الحقيقة تنحاز إلا إلى قصيدتك التي راحت تفور كاللهب في عروق المدينة او تسيل كالينابيع فوق أرصفتها الخائرة من التعب. صحيح ان كتاباً وشعراء عرباً كثيرين شــاطروك تلك التجربة الفريدة قبل ثلاثين عام وأن كثراً غيرك جاءوا لشحذ قصائدهم ولوحاتهم على سكـــاكين الألم ولكن السفن التي حملتهم بعد ذلك على ظهورها كانت خالية منـــك. فبيروت لم تكن بالنسبة لك نزلاً مؤقتاً او شقة مفروشة او محطة عابرة على طريق الفقدان بل كانت الملاذ والحبيبة والمأوى وملاذ أنفاسك الأخير.
ثلاثون عاماً مضت وأنت تجوب المدينة بقامة مستلة من الفولاذ وعينين زائفتين باتجاه المجهول، وتذرع مثل باعة اليانصيب أرصفة هدها التعب، وشوارع لم تكن رحيمة بك، ومكاتب صحف لم تعصمك مكافآتها القليلة من جوع ولم توفر لاقامتك سوى شقق بائسة مطلية بالكوابيس. غير ان كل ذلك لم يثنك عن اختيارك للمدينة التي أحببت والتي رأيت في مقاهي رصيفها الآهلة بالضحكات وجلسات النميمة البيضاء ما يعوضك عن شقائك المتعاظم وخساراتك المتراكمة. وكان لك مقعدك الدائم في جميع المقاهي التي أقفلت أبوابها في وجوهنا الواحد تلو الآخر بدءا من الاكسبرس والمودكا والويمبي والكافي دو باري وصولاً إلى مقهى الروضة حيث كان وما زال صديقك عصام العبدالله يدير مسرحه اليومي متنقلاً كالبدو الرحّل بين مضارب الكلمات. وفيما كنا نتراشق بالطرف والنكات ككرات الثلج كنت أنت تكتفي بالضحك وبعض المداخلات الخجولة والقصيرة. ورغم ان جعبتك كانت مليئة بسهام الذكاء اللماح فلم تكن تسدد نحو مجالسيك إلى رشقات من اللطف لا يتعدى وخزها ما يفعله شوك الورود في القاطفين.
لم ينتبه أحد يا زهير إلى الألم الذي يعتصر روحك. ربما لأننا لم نر فيك سوى صلابة في الجسد لم تكن تفسح لنا مجالا لرؤية الشقاء الذي كان ينخرك من الداخل. الشقاء المختبئ خلف صلابة الجسد الرياضي الذي طالما حسدناك عليه. الشقاء الذي كان يبري أحشاءك ويغلفها كالزجاج المطحون بسياج من الكرامة. أنت الذي ينزل إلى البحر في عز الشتاء مروضاً بجسده الفاتن هيجان الأمواج ونحن نرمقه بغبطة تقارب الحسد. والذي كان يمشي على يديه عشرات الأمتار فيما نحن نمشي على أقدامنا بتثاقل فاضح. أنت الذي لم يشك أبدا من وهن أو مرض أو صداع في الرأس، ولم يعرض أوجاعه على أحد فيما كدنا نحن نحول المقهى إلى مأوى للعجزة او عيادة دائمة يتعهدها برعايته كل من الطيبين محمد وهبي ومحمد شهاب الدين.
ولم ينتبه أحد يا زهير إلى كــرم لغتك المشــتعلة بالاستــعارات وإلى مقالاتك المحبة التي أغدقتها على الجميع من دون أن تنتظر تحية أو كلــمة عرفان. وكنت تصدر المجــموعة تلو الأخـــرى غير آبه بلا مبــالاتنا المريبة وإشاحة وجوهنا عن النهر الذي يتضور عطشاً إلى قطرة حب.
لم ننتبه يوماً إلى قصيدتك التي «تتصاهل» مع الخيول، وفق تعابيرك المترعة بالاشتقاقات. وحين كنا نأخذ عليك استسلامك المفرط لهيجان اللغة واندفاعها الجامح كنت تكتفي بنظرات العتاب المريرة وهي تتجمع كغيوم داكنة في سماء عينيك. ربما كانت اندفاعة لغتك الشعثاء لا تسمح لك بتنقية الزؤان المبعثر بين حقول الكتابة ولكننا تناسينا، عن عمد أو غير عمد، أن فوضى الغصون اليابسة لا تقلل أبداً من جمال الغابة وتناسقها الإجمالي. ولم ينتبه أحد منا إلى اللقى الثمينة التي تشع كالذهب في ثنايا المدينة التي أدماك حبها حتى الثمالة وأنت القائل «وتشهد هذي المدينة أني انتميت لها بعد جهد جهيد/ وما زلت أحسب خطوي على أرضها نعمة «تشبه الكارثة». ولا إلى غربتك المقيمة حتى الموت في عراء العالم حين قلت «وحدي أقول قصائدي بفم يموت/ وحدي كأن لا بيت لي/ لا أهل لي/ لا حب لي/ يغتالني هذا السكوت». ولا إلى صبرك التراجيدي على القهر والجوع. وانعدام اليقين الذي لا تنفك ألغازه إلا بخاتم الموت «أحيانا أجيد الشعر لكني أجيد الصبر أكثر/ ها هنا في القبر/ أعرف ما الذي يجري». ولم ننتبه لرثائك لنفسك وأنت تتخبط بين مستشفيات بيروت التي أخذك سحرها على حين غرة مختارا لجنازتك يوماً آخر غير ليلة السبت التي لفظت عند منتصفها آخر أنفاسك: «إذن مت/ والجنازة كانت كما قرر الراحلون نهار الخميس/ ولكن أضدادهم في الحنين ارتأوا أن تكون نهار الأحد/ وفي سحر بيروت يبقى لموتي شميم العطور التي لا تحد».
أخطأت حساب الأيام يا زهير ولم تخطئ حدسك بالموت. أما الجنازة فكانت من التواضع بما لا يليق بشاعر مثلك. وكما واكب جنازة بدر شاكر السياب أربعة فقط من أصدقائه المقربين الذين عبروا به من المستشفى الأميري في الكويت إلى مسقط رأسه في جيكور ذات شتاء غابر شاءت المصادفات ان يواكب جنازتك الخارجة من مستشفى رفيق الحريري الحكومي في بيروت أربعة مماثلون من أصدقائك هم بلال شرارة وخيرات الزين وعبير عربيد وكاتب هذه السطور. ومعنا ابنك الوحيد مهيار والفنان جمعة الناشف. ولم تكن الجنازة تسير الهوينا كما يليق بمهابة الجنائز بل كنا نتسابق مع النهار في شتاء غير ماطر لكي نقلّك إلى ضريحك مثل مغيب الشمس. ومع ذلك فلم يتح لنا الطريق الطويل وإجراءات الحدود الصارمة ان نصل إلى بسنادا الا بعد حلول الليل حيث لم يكن ينتظرنا عند الوصول إلى منزلك غير المكتمل سوى نفر صامتين من الأهل والأصدقاء. هناك لم يكن أحد ينبس ببنت شفة. لا عويل ولا بكاء باستثناء حشرجات مختنقة تصدر عن امرأة شبه مقعدة عرفنا أنها أختك. امرأة واحدة لم يثر بكاؤها النساء الأخريات، كما تمنى لنفسه مالك بن الريب، باستثناء النشيج المسموع لابنة أختك لجين الذي كان يصلنا عبر جهاز الهاتف الخلوي وهي تقطع الطريق الطويل من الحسكة، حيث تقيم، باتجاه بسنادا دون أن تستطيع الوصول في الوقت المناسب. وبعد أن غسلوك بسرعة ملحوظة وأدخلوك في رداء الموت الأبيض تركوا وجهك مكشوفاً لبضع دقائق لكي يتمكن من يشاء أن يلقي عليه النظرة الأخيرة. ومكننا للحظات حائرين بين أن نسدل ستار أعيننا على بهاء وجهك الأسمر كما ألفناه في الحياة وبين إلقاء النظرة الأخيرة على زرقته الرمادية المختنقة التي خطف منها الموت كل أثر للنضارة قبـــل ان نجازف بالخيار الثاني. بعد ذلك سرنا وراء الجنازة الخـــالية من الصــخب مئات قليلة من الأمتار وسط بيوت القرية الفقيرة وتحت ليل بلا أهلّة ولا نجوم.
انحدرت الجنازة الصامتة فوق طريق ترابية مليئة بالأحجار، ووسط الجلول المتدرجة المكسوة بأشجار الزيتون والزعرور والصبار كانت تتلألأ بعض المصابيح التي علّقها ذووك بين الأشجار لكي تضيء لهم الطريق إلى القبر ووريت الثرى يا زهير.
وحده قبرك المحفور تحت شجرة زيتون قديمة تدلت غصونها فوقك كقامات نساء ثاكلات كان يليق بك. ذلك القبر الذي تمنيته لنفسي والذي غبطتك عليه كان يطل على بحـــر اللاذقية المسربل بظـــلامه أســـفل المشهد متيحاً لك، لو أردت، أن تتلفت بالقلب باتجاه بيروت البعــيدة التي قلّ أن أحبها عاشق مثــلك والتي ستحتفظ بذكراك حتى زمن طويل.

شوقي بزيغ

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...