تركيا تهتز

01-04-2008

تركيا تهتز

دخلت الأزمة السياسية في تركيا، مع قبول المحكمة الدستورية طلب المدعي العام اغلاق حزب «العدالة والتنمية» وحظر معظم قيادييه من العمل السياسي، في نفق غير متوقع قد يعيد البلاد الى سنوات التوتر وعدم الاستقرار التي سبقت وصول «العدالة والتنمية» الى السلطة في نهاية العام ,2002 كما تطيح بالانجازات الاقتصادية والعلاقات الدولية التي ارساها الحزب خلال سنوات حكمه.
وأظهر قرار المحكمة بما لايدع مجالا للشك، ان «الدولة العميقة» لا تزال القوة الأولى في تركيا، وان «عين» الاصلاح لا يمكن ان تعلو على «حاجب» العسكر وامتداداته القضائية. واكد ايضا ان العسكر يمهل ولا يهمل، وان ما بدأه من انذار الكتروني في 27 نيسان من العام الماضي لقطع الطريق امام وصول عبد الله غول الى الرئاسة، وما بدا انه رضوخ للإرادة الشعبية التي منحت رجب طيب اردوغان ورفاقه انتصارا كاسحا في انتخابات تموز الماضي، لم يحطا من عزيمته على استئصال «الخطر الاسلامي» بأكثر اثوابه اعتدالا والذي يمثله مشروع «العدالة والتنمية».
وقررت المحكمة الدستورية امس بعد اجتماع دام اربع ساعات وبإجماع نادر، قبول ادعاء المدعي العام عبد الرحمن يالتشينكايا فتح دعوى لحظر حزب العدالة والتنمية ومنع 71 من قادته بمن فيهم رئيس الجمهورية عبد الله غول من العمل السياسي. وكان يكفي لقبول الدعوى موافقة غالبية اعضاء المحكمة اي ستة من اصل احد عشر عضوا فيما يحتاج قرار حظر الحزب الى موافقة سبعة اعضاء على الأقل.
لكن المفاجأة كانت في تصويت اعضاء المحكمة على الفصل الخاص بمحاكمة عبد الله غول بصورة مستقلة عن سائر فصول الدعوى. ومع ذلك، لم ينج غول من سيف المحاكمة عندما ايد سبعة في مقابل معارضة اربعة من اعضاء المحكمة، بجواز محاكمة غول ايضا، لينفتح بذلك فصل جديد من السجالات القانونية حول مشروعية محاكمة عبد الله غول كون رئيس الجمهورية لا يتعرض للمحاكمة الا بتهمة الخيانة العظمى.
ويشكل قرار المحكمة بالاجماع، رسالة قوية حول تصميم القوى العلمانية على التخلص من حزب «العدالة والتنمية» ومن رأسه الأول رجب طيب اردوغان ورأسه الثاني عبد الله غول والارتداد على الاصلاحات السياسية التي تحققت.
وكان رد الفعل الأول على القرار من نائب رئيس الحزب الحاكم دنغير مير محمد فرات الذي حذر ان اغلاق الحزب سيعيد تركيا خمسين سنة الى الوراء، الى مرحلة الخمسينيات، وسيكون كارثة على تركيا.
وكانت سبقت القرار تصريحات غاضبة لزعيم الحزب ورئيس الحكومة اردوغان حول الخطوة التراجعية التي طلبت منه، اذ تساءل «اين اخطأنا لنتراجع». وقال «السياسي لا يتراجع بل يتقدم الى الأمام»، وهو ما فسر انه نية لدى الحزب بالمواجهة وفق الطرق الديموقراطية، سواء بالدفاع عن التهم الموجهة اليه امام المحكمة الدستورية، او عبر طرح تعديل دستوري على البرلمان حتى اذا لم يمر بغالبية الثلثين يطرحه على استفتاء شعبي ينقذ الحزب من الاغلاق وقادته من الحظر السياسي شرط ان يكون التعديل في البرلمان قد نال 330 صوتا على الأقل ليكون مقبولا لطرحه على استفتاء. وستتركز التعديلات على اشتراط موافقة البرلمان المسبقة على اي طلب لفتح دعوى اغلاق حزب ما.
وقد يتشجع حزب العدالة والتنمية بالموقف الاوروبي الداعم لمنع حظره، ولا سيما تصريحات مسؤول شؤون توسيع الاتحاد اولي رين الذي حذّر اثناء اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في سلوفينيا امس الاول من ان اغلاق حزب «العدالة والتنمية» سيدفع الاتحاد الى وقف مفاوضات العضوية مع تركيا، اذ تنص بنود الاتحاد انه اذا حدث انتهاك للحريات والديموقراطية في بلد اثناء مفاوضات العضوية معه، فللمفوضية او لدول من الاتحاد طلب تعليق العضوية.
وقال رين ان اغلاق الحزب يتعارض مع معايير كوبنهاغن ومع معايير البندقية التي تقول بإمكان اغلاق الأحزاب في حالة واحدة فقط وهي استخدامها العنف او ارتباطها بعلاقات عنفية مع آخرين وهو ما لا ينطبق ابدا على حزب «العدالة والتنمية». واوضح انه في الديموقراطيات الاوروبية تحل مثل هذه الحالات في صندوق الاقتراع وليس في المحكمة. وأمل ان يأخذ قضاة المحكمة الدستورية بالاعتبار هدف الانضمام الى الاتحاد الأوروبي عند اتخاذ قرارهم، مشددا على انه لا يوجد برنامج سري لدى «العدالة والتنمية».
وقد وصفت صحيفة «ميللييت» كلام رين بأنه تحذير جدي وليس تهديدا. ورفض الكاتب سميح ايديز مقارنة «العدالة والتنمية» بحزب «الرفاه» لأن الأخير دعا في بعض ادبياته الى الجهاد وتعرض لكيفية الوصول الى السلطة وعلى لسان نجم الدين اربكان بالذات الذي تساءل عما اذا كان الوصول الى السلطة سيكون «سلسا ام دمويا»، فيما حزب «العدالة والتنمية» بعيد عن كل هذه الخطابات.
ستأخذ المحكمة وقتها في درس الدعوى ومن بعدها ترفع الملف الى حزب «العدالة والتنمية» لتقديم دفاع عن نفسه خلال شهر من الزمن وقد يتم تمديد المهلة بحسب الحاجة، ومن بعدها تتابع الدعوى حتى صدور الحكم الذي يتوقع ان يصدر قبل مرور ستة اشهر من الآن. ولم يعرف بعد ماذا سيكون مصير غول اذا صدر قرار بمنعه من العمل السياسي لمدة خمس سنوات. فهل يبقى رئيسا ويطبق عليه ذلك بعد انتهاء ولايته.. ام يعتبر مستقيلا.. ام يعفى من الحكم؟
ولا يستبعد العديد من المراقبين ان تتخذ المساومات بين اطراف النزاع بعدا جديا بعد قبول المحكمة الدعوى واعادة النقاش حول امكانية القبول بصفقة بين الطرفين العلماني والاسلامي على قاعدة استمرار حظر الحجاب في مقابل منع حظر حزب العدالة والتنمية.
واذا كان من الصعب على حزب «العدالة والتنمية» الذي انتظر وفق ما قال اردوغان خمس سنوات للوصول الى هذه اللحظة، الموافقة على خطوة تراجعية بهذا الخصوص، فإن امام الحزب واحدا من خيارين: اما الدخول في صفقة مع القوى العلمانية، او المضي في المواجهة الى تعديل دستوري، او استفتاء شعبي ليكون الشعب مرة اخرى هو الحكم.
لكن اصواتا كثيرة تخرج في تركيا محذرة من ان مثل هذا الاستفتاء لن يكون سوى دعوة للعسكر للتدخل عسكريا ليطوي صفحة «العدالة والتنمية» ورأسه رجب طيب اردوغان، لأن الحزب يكون قد مس بصورة غير مباشرة بـ«ام البنود» الدستورية عندما يطرح استفتاء ضد اتهامه بانتهاك العلمانية.
تعود تركيا من جديد الى دوامة عدم الاستقرار والى عهود الانقلابات المتعددة الواجهات فيما المضمون واحد. وفي وقت يموج العالم والمحيط الاقليمي بالتحولات التاريخية والكبرى، تغرق تركيا في شبر قضايا داخلية من بديهيات الحرية الدينية والفردية. ولا شك في ان القوى المتشددة من العلمانيين، بسلوكها هذا، تدفع الاسلاميين الى التفكير مليا بأفضل الاساليب الممكنة للتعبير عن وجودهم ومصالحهم، فإذا كان «الاسلام المعتدل» لم يشكل قاعدة للتفاهم والمصالحة... فأي إسلام يريدون؟

محمد نور الدين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...