النفط والثورة والشأن الديني

29-04-2011

النفط والثورة والشأن الديني

مع تكاثر النفط إنتاجاً واحتياطاً، تعاظم دور إيديولوجيا النفط. صادف أن كان لدولة النفط الكبرى أمير وشيخ. تبع الأمير لأسياد النفط العالميين، وتبع الشيخ للأمير. صار الاثنان أشبه بموظفين يديران شؤون النفط لمصلحة الإمبراطورية والشركات التي تسيطر على النفط. الشيخ والأمير عرب، لدولتهما عضوية في الجامعة العربية. أخضعا الأمة للنفط؛ صارت الأمة ملحقة بالنفط. صودرت الإيديولوجيات الكبرى، من الإسلامية والقومية والماركسية، لمصلحة النفط. قرر النفط الخطوط العامة لما يجري في الوطن العربي، ثبّت الأنظمة في وجه شعوبها، جعل الاستبداد قاعدة الحكم في كل بلد عربي؛ وهو الآن يحاول تقرير مصير الثورة العربية.
يأتي النفط من باطن الأرض، من الطبيعة. كل ما يأتي من الطبيعة هو منحة من الله. كل ما يطاله اللطف الإلهي هو دين. صار النفط مصدر الفهم الديني، وهو مصدر المال. الأمير والشيخ جاهزان منذ ما قبل النفط. المال للأمير والدين للشيخ. صار الشيخ في خدمة الأمير كما المال في خدمة الأمير. الجميع في خدمة الأمير سواء من كان في الأرض من سكانها الأصليين، أم من الوافدين إليها، أم من العرب الذين بقوا في أقطارهم.
طغى المال على الدولة بطبيعة الحال؛ المال مدعوماً بإيديولوجيا دينية، ولا ندري أيهما يقرر للآخر: الكتلة المالية أم مجموعة الفتاوى. الوافدون إلى الأمير يخضعون لعشوائية الكفيل، بعضهم صار مقاولاً كبيراً في أعلى الهرم؛ وقد اعتدنا في تاريخنا على مماليك يصيرون سلاطين وأمراء. الوافدون يرسلون لذويهم ما ادخروه. تصير الأقطار المستقبلة للتحويلات تابعة بشكل أو بآخر لما يرد إليها. الاعتماد على التحويلات، العيش من دون عمل؛ هناك متسع من الوقت للتسكع والعبادة. يتسكع العاطلون عن العمل، والعبادة يمارسها المؤمنون، صارت البطالة والإيمان صنوين. من دون عمل، من دون موضوع للفكر والممارسة، تصير البطالة والإيمان مصدراً للسياسة بأفكار متطرفة وغير مسؤولة، غير مرتبطة بوقائع من التاريخ أو الحاضر. من دون البرهان عن صحتها أو عدم صحتها، ومن دون مرجعية للفكر والممارسة غير الأفكار المسبقة، والحقائق المؤكدة التي تصير هي معايير الصحة والخطأ، ومعيار التكفير والهجرة. الهجرة ذات بُعد تاريخي، لكنها أيضاً مصير المحرومين من فرص العمل في بلادهم.
أثر النفط لا يقتصر على البلدان المنتجة للنفط، بل ينتقل إلى البلدان غير المنتجة التي تحول إليها مدخرات العاملين في بلدان النفط. تتراجع الصناعة والزراعة في البلدان غير النفطية، لكنها تستطيع الاعتماد على التحويلات الفردية، وعلى المساعدات التي تأتيها من بلدان النفط. نشأت مؤسسات لتوزيع المساعدات في البلدان المتلقية. وفي جميع الأحوال، أموال تذهب وتجيء، من دون أن تساهم في عملية إنتاجية. يصير الاقتصاد معتمداً على المال، والمال على المضاربات، والمضاربات على الأوهام، والأوهام مصدر الحقيقة. صارت الحقيقة في متناول الجميع. لم تعد مثلاً أعلى يصعب الوصول إليه، حتى لمن قضى عمره الفلسفي يبحث عنها. الحقيقة هنا، بين أيدينا؛ نستطيع التكفير على أساسها، التكفير في مسائل الإيمان كما في مسائل السياسة. كل شيء يخضع للتكفير، كما كل مشكلة اقتصادية يمكن حلها بالهجرة إلى بلدان النفط أو بالمساعدات الآتية من بلدان النفط. مال النفط من جهة، والتطرف الديني من جهة أخرى، وجهان لعملة واحدة.
عدة الشيخ المعرفية تخوله الاستبداد عن طريق الفتاوى؛ هو من يفكر عن الآخرين، ولا داعي لأن يشارك الآخرون في تقرير أمورهم وتقرير مصيرهم؛ مصيرهم يُقرَّر لهم، يقرره الأمير، أو الشيخ لمصلحة الأمير. أما عدة الأمير المالية، المتأتية عن إنتاج النفط من دون عمل، وعن تدفق النفط إلى حساب الأمير الشخصي، أو عن قدرة الأمير على التصرف من دون الرجوع إلى أحد، فهي ما يتيح التصرف بالآخرين من دون رقابة أو محاسبة. عشوائية كاملة في التفكير والتصرف، هي مصدر الاستبداد الحديث. حداثة في الاستهلاك وفي كل شيء آخر ما عدا حداثة المواطنة والمشاركة السياسية. هي دولة من دون شعب؛ الشعب ملحق بالدولة، بالأحرى ملحق بإرادة الأمير. أمير بلد النفط هو المركز، أمراء البلدان غير النفطية ملحقون به، يتشبهون به. نموذج يعم الأقطار العربية النفطية وغير النفطية: أمير من دون شعب. دولة من دون شعب. الشعب مجرد مقولة يستخدمها الأمير عندما يحتاج للاستبداد. الاستبداد لعبة الأمير. على الأمير أن يمارس اللعبة من أجل أن يرضى عنه مدير النظام العالمي.
شعب من دون أرض، لأرض من دون شعب. مقولة استخدمتها الصهيونية لاغتصاب فلسطين. وهي تستخدم في بلدان النفط. يستوردون «شعوباً»، من غير العرب للعمل؛ وهم لا يعملون. صار غير العرب في بعض بلدان النفط أكثر عدداً من العرب بكثير. يحتاجون إلى حماية في وجه السكان. صاحب النفط الأكبر مستعد دائماً لحمايتهم في وجه شعوبهم من السكان الأصليين، وفي وجه الوافدين. لكن الشعب العربي، الآن وقد صارت كلمة شعب بعد الثورة مبررة، هو المطلوب إلغاؤه. يلغى بالاستبداد وبوسائل اقتصادية.
حين تلعب دولة نفطية صغيرة دور القيادة «للعالم العربي»، تنكشف حقيقة الأمر وهي أن دولة صغرى ألغت شعبها تمارس دور الشعوب العربية الكبرى في ممارسة حق تقرير مصيرها. تنتقل شعارات الصهيونية إلى الأفكار والممارسات العربية عن طريق توفر المال لدول من دون شعوب، أو دول ذات شعوب مقهورة وملغاة. لا نفهم كيف تلعب دولة لشعب، هو أقل من تظاهرة في مدينة عربية أقل من متوسطة الحجم، دوراً أكبر مما يتاح لأكبر دول العالم. يبدو أن النفط، مضافاً إليه وجود القواعد الإمبراطورية الجوية أو البحرية هو ما يتيح لأمراء وسلاطين الدول كمية من الذكاء والفهم والإدراك أكثر بكثير مما يتيحه العمل والإنتاج وقضاء العمر في القراءة والمتابعة.
لا أزعم أن القرية التي أتيت منها والقرية التي تبعد عنها كيلومترين متشابهتان في كل شيء، ولا أزعم أن كل حي في مدينتي يشبه الحي المجاور. أعشق الاختلاف وحق الاختلاف. لكنني لا أستطيع، ولا أريد، أن أصدق المسؤول الأميركي الذي قال غداة ثورة تونس إنها لن تتكرر، وإن كل بلد عربي يختلف عن كل بلد عربي آخر. في لحظات الثورة يتوحد الناس لأنهم يتشابهون؛ يتشابهون بمطالبهم أكثر من أي شيء آخر. يزعم كل حاكم عربي أن بلده يختلف عن كل بلد عربي آخر. يمكن أن يكون الادعاء صحيحاً، إلا في الأحوال الثورية. نعرف أن الثورة لا تدوم، وليتها تدوم. لكن الأمر هو أنه حتى تنتهي الثورة، أو حتى تنتصر الثورة المضادة، أو حتى يركب الثورة الانتهازيون، فإن الناس سوف يبقون متشابهين؛ على الأقل في شيء واحد هو الكرامة والسعي وراء تطابق الفكر مع الوجدان. هذا الشيء الواحد ليس أمراً قليل الأهمية. الفرق بين الإنسان والنبات هو الكرامة؛ الكرامة مصدر الإرادة، الإرادة هي ما يصنع السياسة، السياسة هي الإنسان. الإنسان حيوان سياسي. تحول العرب من حالة النبات إلى حالة إنسانية دفعة واحدة. الأمر ليس عجيباً. يعرف علماء الفيزياء ذلك.
في هذا الزمن الذي ليس عصيباً، والذي نتمنى أن يدوم، والذي نعرف أنه لن يدوم، لأن الثورات لا تدوم، وإلا لما كانت ثورات، يتطلب الفهم منا أن نؤسسه على غير الانتقائية، أن نؤسسه على معايير واحدة نطبقها على جميع البلدان العربية، لأن البلدان العربية بشعوبها الثائرة تشكل حالة واحدة من تونس الخضراء إلى اليمن السعيد، من المحيط إلى المحيط. الانتقائية في المعايير الآن هي تعبير عن رغبة بالاستبداد، هي الاستبداد بعينه. لأن معنى الانتقائية هو رسم صورة مسبقة توضّب ذهنياً لتُفرَض على الواقع وتمنع تطوره بعد أن تحجب رؤيته. لا بد لنا من معايير متناسقة داخلياً ومنسجمة مع تطلعات شعوبنا العربية كي نستطيع مواجهة الطغيان والاستبداد.

الفضل شلق

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...