الترجمة و«الطفرة»

29-03-2010

الترجمة و«الطفرة»

حركة الترجمة في العالم العربي مزدهرة جداً. هذا ما يشي به النشاط الهائل القائم منذ عامين أو أكثر في هذا الحقل. فالأعمال المترجمة تتوالى في شتى الميادين، والمراكز المعنية بهذا «العمل» الخلاق والمعقد، تزداد بوضوح، والندوات حول الترجمة لا تُحصى وكذلك الجوائز والمكافآت... ظاهراً لا يمكن الشك في ازدهار هذه الحركة عربياً. المترجمون يعيشون حالاً من النشاط لم يعرفوها سابقاً، والدور تولي الكتب العالمية اهتماماً غير مألوف. قبل عامين أو أكثر دخل المال الثقافي مضمار الترجمة وانطلقت مشاريع كبيرة غايتها تعميم الكتب المترجمة وملء المكتبات العربية بها. وكان على مراكز عدّة، كثيراً ما عانت الفقر أو الشحّ المالي، أن تنتعش وتعاود العمل وتصدر الكتب بغزارة. ولم تمضِ فترة قصيرة حتى فاضت الكتب المترجمة في كلّ الحقول: العلم والإعلام والأدب والفلسفة والتاريخ والتكنولوجيا وسواها. تراكمت العناوين وبعضها لم يحظَ بأيّ رواج نظراً الى عدم توزيع الكتب وترويجها واخراجها الى الضوء. كان همّ بعض المراكز المستحدثة أن تحقق سبقاً في عدد الكتب المترجمة، وفي ظنها أنها هكذا، تبلغ الغاية التي تصبو الترجمة اليها. وبدت مراكز عدّة كأنها تتسابق في تبنّي الترجمات واستقطاب المترجمين ومكافأتهم، وراحت تعقد الاتفاقات مع دور عربية بغية نشر هذه الأعمال وتوزيعها.

إلا أنّ هذه الحركة التي نشطت خلال عامين أو أكثر ما لبثت أن هدأت، لئلا أقول خفتت. وأول ملامح هذا الهدوء أو الخفوت تبدّى في حركة النشر وفي عالم الناشرين أنفسهم. ومعلوم أنّ بعضاً منهم عرف كيف يفيد من الظروف التي سنحت ليرسّخ موقعه في السوق مرتكزاً الى الدعم الذي حصل عليه. بدأ هؤلاء الناشرون يطلقون ما يشبه نداء «الاستغاثة» بعدما تيقنوا أن المال الثقافي الذي هطل عليهم فجأة كاد أن ينقطع، لا سيما بعد الأزمة المالية التي غزت العالم. وعاد هؤلاء الى مواقعهم السابقة والى «سياساتهم» المعتمدة من قبل... أما الواقعة فوقعت على المترجمين الذين ما كادوا ينعمون بما توافر لهم من أثمان جيدة لقاء عملهم، حتى عادوا الى الشروط المادية الأولى وغير المرضية التي يفرضها الناشرون عادة.

انطلقت هذه «الفورة» في حركة الترجمة فجأة وكادت تخفت فجأة. تُرى ما الذي حصل بين البارحة واليوم؟ أما السؤال الأشد إلحاحاً فهو: ما تراه سيكون مصير الكتب الكثيرة التي ترجمت وكانت غايتها على ما بدا، أن تحتل الرفوف والواجهات في المكتبات ومعارض الكتب؟ طبعاً هناك كتب مترجمة تحظى بقراء يقبلون عليها، روايات ودواوين ودراسات تتوجّه الى فئة من الهواة والمهتمّين الحقيقيين. ولكن هناك أيضاً كتب ترجمت لتترجم فقط، ولتدلّ على حجم حركة الترجمة في لحظة ازدهارها أو انتعاشها.

الى مَن يتوجه الناشرون ومديرو المراكز في الترجمات التي ينجزونها؟ هل حاولوا مرة أن يتعرّفوا الى قراء هذه الأعمال المترجمة؟ هل تحرّوا عنهم وعن ذائقتهم وثقافتهم؟ ألا يعلم هؤلاء أن هؤلاء القراء يجيدون القراءة ويغرّقون بين رديء الكتب وجيّدها؟

نجحت «المنظمة العربية للترجمة» في ترسيخ مشروعها المهمّ وتنفيذ خطتها العلمية في الترجمة. لكنّ من يطّلع على عناوين الكتب التي ترجمت يدرك للحين انها كتب موجّهة الى النخبة وربما الى نخبة النخبة، وبعضها أكاديمي صرف لا يعني سوى الطلاب الجامعيين والأساتذة. أما مشروع «كلمة» أو مشروع «مؤسسة المكتوم» في الإمارات فكان أوسع أفقاً، لكن الكتب التي صدرت عنهما بدت غير خاضعة لسياسة معينة أو رؤية شاملة. انها الترجمة كيفما كان لها أن تكون. الترجمة التي لا تعرف جيداً مَن هو القارئ الذي تتوجه اليه.

طبعاً هناك مراكز عريقة للترجمة في العالم العربي وفي طليعتها «المركز القومي للترجمة» في القاهرة والمجلس الوطني في الكويت وسواهما. ومراكز كهذه تملك مشاريعها وخططها المسبقة وهي لم تتأثر بـ «الطفرة» التي حصلت أخيراً لأنها موجودة قبلها ثم لأنها في منأى عنها. لكن مراكز كهذه لم تستطع أن تواجه وحدها الأزمة العميقة التي شهدتها حركة الترجمة في العالم العربي وما زالت، فالأسئلة كثيرة ومربكة، أما الأجوبة فتكاد أن تكون معدمة. أما الندوات الكثيرة التي تقام هنا وهناك حول الترجمة فهي غالباً ما تتحاشى الكلام في الأزمة وعنها، بل هي تطوف من حولها لئلا تصطدم بها وكأنها تسعى دوماً الى تأجيل هذا الاصطدام.

ماذا نقرأ بالعربية من ترجمات؟ هل يمكننا أن نثق بهذه الترجمات؟ ماذا عن الرقابة التي تمارسها مراكز الترجمة والدور على الترجمات هذه قبل الرقيب الرسميّ نفسه، فتحذف ما تحذف غير آبهة بالكاتب والقارئ معاً؟

عبده وازن

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...