الأم ... تعبيراً عن المجتمع الذكوري

27-09-2007

الأم ... تعبيراً عن المجتمع الذكوري

تأخذ صورة الأم مكرورة لافتة للنظر في عدد من الروايات السعودية، تتمثل في الانحياز للولد الذكر ودعمه، في مقابل تقييد حركة البنت وقمعها ومطالبتها بالامتثال للعرف والتقاليد والانصياع للرجل، وهو أخوها أو زوجها، وفي الروايات نفسها - غالبا ً- تأخذ صورة الأب مكرورة سمات مضادة لموقف الأم تجاه البنت، فهو مشجع لها ومتسامح معها، وحام لها من بطش أخيها أو زوجها، وداع إياهما إلى الاحترام لها والرفق بها.
وقد تبدو المسألة صورة نمطية تحيل على سيكولوجيا اللاشعور الجنسي، حيث تعلُّق الابنة بوالدها وشعورها بالعداء نحو والدتها، وهو ما تشير إليه «عقدة إلكترا» في نظرية التحليل النفسي، في مقابل «عقدة أوديب» التي تشير إلى ما يتكون في لاوعي الابن من تعلق بالأم، تقابله غيرة من الأب، وترمز - كما يقول إريك فروم - إلى الثورة على سلطة الأب.
كما قد تأخذ الصورة نمطيتها من الفطرة الخالصة، بوصفها منتَجاً لا شعورياً، يتخطى الفرد ويتجاوز اللحظة، بالمعنى الذي أفضى بكارل يونغ إلى فكرة «اللاشعور الجمعي» الذي ينفي أن تكون النفس قبل الشعورية للطفل الوليد وعاء فارغاً، وإنما هي نفس مشكَّلة بما يؤكد جنسه الإنساني، ونوعه البشري، ويحتوي أشكالاً فطرية موروثة عن أسلافه هي الأنماط البدائية (أو العليا).
وقد عد يونغ الأم إحدى الأنماط البدائية، وتكمن في القوة المتسلطة للأم التي تشكل الجزء المؤنث من النفس البدائية (الأنيما)، وهي «محافظة متعلقة بالقديم تتمسك بأنماط الإنسانية المبكرة». كما غدت لديه أول «أنماط التحول»، وفيها تبدو الأم في مظاهر متنوعة، وأكثر ما يمثل نمطها الأم والجدة وزوجة الأب وأم الزوجة والمرضعة والمربية، وترمز إليها كل الأشياء التي تثــير مشاعر العبادة أو الخــوف والــرهبة كالكنــيسة والجامعة والمدينة والسماء والأرض والغابات... إلخ.
وتأخذ السمات المصاحبة لنمط الأم - كما شرح يونغ - رموزاً دالة - في جانب - على العناية والعطف، والهيمنة السحرية للأنثى، والحكمة، والخصوبة، والميلاد الجديد.
و - في جانب آخر - على أي شيء سري خبئ مظلم كجهنم، أو أي شيء يفتــرس ويغــوي ويهـــلك، ومن ثم فهي تجمع ما سمَّاه «تكــافؤ الضـــدين» مثل «الأم المحبة الحنــون والأم المهيبة البغيضة»، وتحمل إلينا الصورة الموروثة للحياة بكاملها، فهي الوقاء والكمون، والأصل لكل نمو وتغير.
وأتصور أن رمزية الأم للتراث والتقاليد هي المنبع الثري لأشكال توظيفها وسياقاته في الأدب الحديث، مثلما أن رمزيتها للولادة والتحول والنمو منبع آخر تحيل عليه أشكال نضالها وتحريضها على التغيير في مثل رواية «الأم» لمكسيم جوركي، ورواية «أم سعد» لغسان كنفاني، اللتين تؤشران على دور المرأة في توليد واحتضان الحس الجمعي للثورة، وفي مثل نموذج «حسنة بنت محمود» في «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، حيث تؤشر بخصائها زوجها العجوز «ود الريس» وقتله على الذات الأنثوية في نقمتها على النظام الاجتماعي، ويغدو انتحارها، بعدئذ، علامة على فتك الثقافة بها وإلغائها وجودياً.
وطبيعي أن تكون معركة التجديد والحداثة والمواجهة بين التراث والعصر، وسلطة المجتمع والفردية، والتقاليد والعقلانية... هي السياق الذي صنعه الأدب الحديث بقدر ما انخرط فيه، وهو - من ثم - سياق الأدب السعودي والرواية جزء منه، حيث دلالة الأم على حراسة التراث والتقاليد في صورة الانشغال الدائم بإصدار الأوامر والنواهي التي ترعى الهوية الكلاسيكية، وتجسد جمالية القمع والقهر والاستسلام للرجل، أو جمالية التمرد والنقمة عليه؛ ومؤدى ذلك هو التعبير عن المجتمع الذكوري الذي يستحيل إلى تراث وتقاليد وإلى هوية خاصة بتشكيل اجتماعي معين، أكثر من أن ينحصر في جزئية جهة أو شخص.
في «جاهلية» ليلى الجهني، لا تعاني البطلة «لين» ذات الفردية والاختلاف من أبيها قدر ما تعانيه من أمها، فالأب، هنا، على قدر من العلم والوعي والتسامح وهو حام لها ودائم الكبح والترشيد لطغيان ذكورية أخيها «هاشم» وتعنته - على رغم جهله وأنانيته وبطالته - في الوصاية عليها، وهو تعنت تحميه الأم وتنحاز إليه مطالبة ابنتها بالخضوع له وأن تكف عن انتقاده، ضمن مبررات جاهزة ومتعالية على الأم و - من ثم - لا تُناقَش، فهو «رجل»!، و «يخاف عليك» و»اسمعي كلامه»!
وهو الدور نفسه الذي تقوم به أم سارة في رواية «اختلاس» لهاني نقشبندي، ففي حين تجسد البطلة «سارة» فعل النقد والمساءلة للمجتمع والثقافة من موقف من يتحيفها إهمال الرجل وأنانيته، وبعقلية أسهم أبوها في صياغة حريتها وإيمانها بالكرامة الإنسانية والثقة والمسؤولية الذاتية، فإن أمها تقف بالضد منها، داعية إياها إلى الاستسلام والصمت والطاعة والتواكل، وقد فقدت هذه الأم كل معنى للمسؤولية، واستحالت - كما تصفها سارة - إلى «نموذج للإنسان عندما يصبح آلة قدرية».
أما بدرية البشر، فقد قدمت في روايتها «هند والعسكر» الأب من المنظور ذاته، فكانت صورته بعيدة عن النمطية، لأنه تخلى عن قيادة الأسرة، وكان متعاطفاً مع معاناة بناته وأبنائه، وكانت الأم متسلطة على مجريات أمور الأسرة، بما انتهى إلى انعكاسات سلبية في هروب الابن الأكبر إلى كندا، وانخراط الآخر في الجماعات الإرهابية ومقتله، وفشل زواج البنت.
إن هذه الصور للأم سواء في استسلاميتها أو تسلطها دالة في سياقاتها ضمن دوال أخرى متعاضدة على التأشير على المجتمع الذكوري، وهي - هكذا - لا تختلف عن الإدانة المباشرة التي نقرأها في صورة الأب الراكض خلف نزواته الجنسية على حساب بناته، لدى بشائر محمد، في «ثمن الشوكلاته»، والأب الأناني والمتعجرف في «بين علامتي تنصيص» لمظاهر اللاجامي، والدكتاتوري الذي تنتهي رواية «أنثى العنكبوت» لقماشة العليان إلى قتله على يد الزوجة، أو الذي يهيمن الانفصام التام بينه وبين ابنته في «الآخرون» لصبا الحرز.

صالح زياد

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...