أنسي الحاج: يهوديّـــــات

23-05-2009

أنسي الحاج: يهوديّـــــات

في مقابل إرهاب أن تكون معادياً للساميّة، هناك إرهاب أن تَتّهم باللاساميّة كلّ خصم لك. وأسوأ ما يمكن أن يحصل هو الانفجار الدموي ضد اليهود. معروفٌ ماذا يجب أن يفعل المسيحيون والمسلمون لتفادي الانزلاق إلى هذه الجريمة، لكن السؤال، السؤال الدائم منذ التوراة هو: هل يتمكّن اليهود من التغلّب على نزعة الانتحار التي كانت على الدوام تقودهم إلى تجاوز الحدود، أم أن سحر الانتحار أشدّ تأثيراً على هذا الشعب المتيَّم بالذنْب، من نداء الحياة؟
■ ■ ■
المثالي يكون بالاعتراض «سلميّاً»، في إطار العقل، وإلاّ كان اضطهاد اليهودي جواب المهزوم «الحقيقي» على الهازم «الحقيقي».
■ ■ ■
تخبرنا التوراة أن يعقوب أَحبَّ زوجته راحيل حبّاً جارفاً حتى قيل إنه أحبّها أكثر من اللّه. وفضَّل ابنه يوسف على جميع إخوته فحسده هؤلاء وتآمروا عليه.
هذا الحبّ الشديد للخليقة (وقد عالجه توماس مان في رواية) يتكرّر في التوراة، حيث لا يتمكّن الله دائماً من أن يحجب وجه الإنسان عن الإنسان. إنها بَشَريّة الصوفيّة اليهوديّة، بشريّة توغل (كما عند إبراهيم وإسحق ويعقوب) في المثالب والارتكابات حتى تبلغ دَرَكاً بالغَ الانحطاط في بعض المواقف، لكنَّ صدقها يضفي عليها مهابة، إذ هي تقول في بساطتها الملحميّة الملموسة لمسَ اليد: أنا بشر، هذه حقيقتي، ولن أُرائي أو أُنافق للّه، وإذا اقتضى الأمر سأقاتله، ولن يتخلّى عني ولو حاججته، وسأخطئ وأفسق وأخون، ولن يسحب عني الربّ يده، فهو الذي يعرفني، وهو الذي أعرفه، وعهدنا معاً عهد مَن يكون الأقوى بالآخر...
في حكاية المعركة بين يعقوب وملاك الربّ، حيث كانت الغلبة ليعقوب فكافأه الربّ، رموز لا يرتوي منها الخيال.
■ ■ ■
قوّة سينيكيّة ـــــ دينيّة ميّزت اليهودي عن سائر الإبراهيميين وغير الإبراهيميين. حيويّة التحدّي وعصبيّة التميُّز. وهما لا تنسيانه ضعفه ومذلاّته. إنه الموحّد وإنه كذلك عابد المال. الصبور الجبّار على المنافي وشتّى صنوف الجَلْد، بما فيها الجَلْد الذاتي، والجَشِع الملتوي الغليظ الرقبة. الملهَم والتائه. الغنيّ والفقير. المسيطر والصعلوك. التقيّ المتزمّت والخليعُ المستهتر. كاره الآخرين والمكروه بين الآخرين. المنبوذ الهدّام والهادم نفسه، انتحاراً أو تشوّهاً، من فرطِ اتهام الذات. الذات المعتبرة نفسها قطب الرحى، والذات القاتلة نفسها سباقاً إلى احتكار كأس الضحيّة.
ماديّة في العلاقة بالله، في تملُّكه، وخيانته وتسييسه، ماديّة هي نقيض الروحانيّة المسيحيّة والتجريد الإسلامي، لكنها، رغم فظاظتها، تنطوي على صورة للّه أكثر جدليّة من صورة الله عند الآخرين. ينسحق النبي اليهودي أمام ربّه انسحاقاً ليس بعد مازوشيّته مازوشيّة، ولا يمنعه ذلك من مناقشة ربّه ومعارضته وإشعاره بالذنب. فالله الذي كان يمتحن ولاء الآباء بطلب أبنائهم قرابين تلاشى مع يعقوب ليحلّ محلّه إلهٌ يصارع الإنسان وينغلب أمامه ثم يباركه. وإذا حككنا أكثر تحت القشرة قد نجد في ربّ كهذا ملامحَ مَن يحتقر الضعف ويستهويه خصم ينازله. إلهُ الغضب، لكن الإنسان الذي أمامه هو أيضاً إنسان الغضب. ما من شفقة عقائديّة هنا وإنما شفقة موسميّة، أخلاقيّة، أو عشائريّة كما تَصرّف يوسف الحسْن في مصر حيال إخوته. ما من ضعف طوباوي إنما ضعف منمّط. والنجاح مباركة إلهيّة. أمّا الانتقام فسُنّة، والشرّ ليس إلاّ مسألة نسبيّة، بل قل عرقيّة.
مناخات «معاصرة». قيمٌ استعادتها هوليوود وعمّمتها. قيمٌ يراد لها، عبر السينما بالأخصّ لأنها الأوسع تأثيراً، أن تسود فوق القيم المسيحيّة والإسلاميّة، فضلاً عن الآسيويّة.
عندما يقال «الحضارة اليهوديّة ـــــ المسيحيّة» يُرتكب مزجٌ ليس في صالح ولا واحدة من الديانتين. مزجٌ أقدمَ عليه فلاسفةٌ ومفكّرون ثاروا على «الضعف» في المسيحيّة واعتبروه هو نفسه موجوداً في التراث اليهودي.
في التراث اليهودي ضعف، لكنه ليس دعوة تبشيريّة ولا غاية في ذاته. المسيحيّة مجّدت الضعف تخلّصاً من «القوّة» اليهوديّة والوثنية. الإله المسيحي والإسلامي الرحمن الرحيم فتحَ مع البشر صفحة جديدة أوصدت الباب على الإله اليهودي العنصري العديم الرحمة. في هذا، اليهوديّة دينٌ أكثر معاصَرَة. معاصرة لأوروبا القوميّات ولأميركا الجبروت. كما كانت معاصرة للشيوعيّة البولشفيّة المنتصرة بالدم على روسيا القيصريّة ومسيحيّتها المحتدمة.
■ ■ ■
المشبوه في الكتابة سواء الدينيّة أو الانتي دينيّة هو النيّة التي نستشعرها لدى صاحبها في حماية ديانته. النزيه في انتقاد الأديان أو رَفْضها هو الموقف الشامل في انتقاده ورفضه: حين تصادف يهوديّاً يهاجم اليهوديّة بالقوّة (والصدق) والحجّة والمتابعة التي يهاجم بها المسيحيّة والإسلام، حينئذٍ تكون قد وجدتَ الحرّ المتجرّد وليس المغرض المستتر.
وطبعاً الأمر نفسه حين تصادف مسيحياً كذا وكذا ومسلماً إلخ.
المزعج في الموقف الملتبس (وهو منتشرٌ في العالم العربي كما هو شائع بين يهود العالم بمَن فيهم علمانيّوهم وملحدوهم) هو دعوة التحرّر التي يُراد بها تحرير «الخصم» من تعصّبه، فقط «الخصم». وأمّا تعصّب الذي يحرّرك فهو المزداد تحصّناً وراء «التحرير».
العلمانيّ الشموليّ مريح لأنّه يحرّر من التعصّب كلياً، واللامتعصّب يُعْديك رحابة: تتبادلان إنكار الذات لتعودا إلى استرجاعها بعد أن يكون كلٌّ منكما قد تنازل أمام الآخر عن خبثِ أناه، وهي أنا مركّبة على كلّ حال.
وكم قليلٌ بيننا البارّ المعطاء هذا. وفي هذا الموضوع (كما في سواه)، الأهمّ ممّن يقرأنا هو الواحد منّا، نحن الكَتَبَة، ونحن نكتب، بل ونحن نفكّر في خلواتنا ونُحسّ قبل أن نكتب: أين، في أيّ أُفق، بأيّة خلفيّة، من أجل ماذا يكون تفكيرنا وكلماتنا. نحن، نحن الكَتَبَة، أوّل مَن يعرف وأكثر مَن يعرف متى نكون صادقين.

■ الرمل الذي يخون الخطى

تعليقاً على مقال الشفقة («الحبّ الكامل»)، أرسلتْ يمنى فرح كلمة أُحبّ أن أوردها هنا:
«الشفقةُ ضربٌ من الرقّة، لكنْ قد يرقّ الإنسان لمَن لا يشفق عليه، وقديماً كانوا يئدونَ البنتَ فيرقّون لها، لأن ذاك طبعٌ إنسانيّ، لكنهم لم يكونوا يشفقون عليها، إذ لو أشفقوا لما وأدوها. وأنا أدعوكَ إلى تجاوزِ هذا المستوى اللغوي إلى مستوى يفلسف الشفقة بجعلها «صرف الهمّة إلى إزالة المكروه عن الناس»، وعندها تصبح حقّاً إنسانيّاً لا مجرّدَ تعاطف اختياري، فحينما نسمع دويّ انفجار يجب أن نشعر بالشفقة لا بالخوف أو الرهبة، مثلاً، باعتبار الشفقة واجباً إنسانياً. وهكذا تتآلف قلوب المجتمع الواحد كما تتآلف قلوب النوع الإنساني في كل العالم. وهكذا يتحقّق الحبّ الكامل حقّاً».

لا حاجةَ إلى تعليقٍ على التعليق، فهو حفرٌ وتنزيل. بعض القرّاء أفضل من مقروئيهم، مثل يمنى فرح. وأنا ممتنّ لهذا التصويب، ولعلّ من أسباب افتقاري إليه انفصالاً بيني وبين أرض الواقع. وهذا ما عبّرت عنه يمنى في تعليق على مقالي الأخير «لا تُغنّوا العودة» عندما كتبت تقول: «أصبحتُ كثيرةَ الحَذَر من كتابةٍ تكون لها أحياناً صفة الرمل الذي يخون الخطى...».

■ جاذبيّة الثبات

يمارس علينا ذوو الثبات جاذبيّة التمرّد عليهم واللعب من ورائهم. لا صعود بدون جبل. أنت لا تَطْلب من الجبل الحركة بل الجمود لتتحرّك أنت. الهواءُ هواءٌ لأنّ العناصر الأخرى تعطيه هُوّيته. تعطيه حريّته.
أحياناً يُخيّل إليكَ أنّ التماوجَ بين ليلٍ ونهار، بين إغماضٍ وإبصار قد توقّف، وأنّ الزمنَ تَجمَّد. انتهى التجاذب. انتهت الجدليّة. وقد تختنق حينئذٍ لشعوركَ بانغلاق الغرفة. يتمنّى الشعراءُ أن يَجْمد الزمن وفي الحقيقة هذا هو عَدوّهم، فالزمن المجمَّد قَبْر.

■ تخيّلات

أيّ قَدْر من الخطر هو ذاك الذي يمكن أن يقال عنه إنه الأقصى؟ هو ما تعايشه في لحمك وعظمك، ما يعمل فيك نخراً، ينهشك ويمشي فيك وتنطق باسمه. تنطق، أو تسكت باسمه.
طموحك أن تتحدّى به، وأن ترقى بالمعاناة إلى الجبروت، فتقهقه على حطام نفسك. أو تنحدر إلى أودى وديانك بدوخةِ سكْر العاصفة عوضَ أن تنتحب انتحاب التدهور.
مجرّد تخيّلات... هي وحدها ما يتجاوز حدود اللحم والعظم.

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...