أم كلثوم في ذكراها الـ31

29-03-2008

أم كلثوم في ذكراها الـ31

يبدو الحديث هنا، عن أم كلثوم في الذكرى الحادية والثلاثين على رحيلها (1898 ـ 1975) ضرباً من جلد الذات، وتذكيرها بالخواء الفني في أقل توصيف، هذا اذا لم نستعمل العبارات «اللازمة» التي يقتضيها وصف راهننا، ان على صعيد الغناء! او الموسيقى! او الكلمة المغناة! أغلبها لمزيد الدقة، والموضوعية. ليس المطلوب من المغنيات ان يكن «أم كلثومات» فهذا لن يتسنى لهن، حتى لأحلاهن صوتا وقوة، فنجاح أم كلثوم وثبات هذا النجاح حتى اللحظة، تضافرت اليه عوامل عدة في زمنها، منها أعظم الألحان التي نسجت لها، الى اختيار الكلمات بالاضافة الى صوتها المعجز إعجازا لا يصدق، حتى اجتمعت لها كل أسباب دخول التاريخ. ليس المطلوب من المغنيات ان يكن أم كلثومات إذن، بل ان تغني الواحدة منهن، من حنجرتها قبل غنائها من أي عضو آخر فيها، على غرار ما نراه الآن في الكليبات المشرفة!!
أم كلثوم، لمن يجهل من الجيل الجديد واسمها الأصلي فاطمة إبراهيم البلتاجي، هي مطربة مصرية اشتهرت في عموم العالم العربي والعالمي في القرن العشرين، ولقبت «كوكب الشرق» و«سيدة الغناء العربي» ولدت في محافظة الدقهلية لابراهيم البلتاجي مؤذن قرية طماي الزهايرة، مركز السنبلاوين. كانت في سن العاشرة من عمرها حين أصبحت تغني أمام الجمهور في بيت شيخ البلد في قريتها، بعد اتقانها حفظ وغناء القصائد والتواشيح بصحبة أخيها إبراهيم البلتاجي.
صوت هادر، قوي مفرط القوة يمكنه بسهولة ان يطلق الآه من الصدور العربية، سوى ان الأجنبي يرى فيه صوتا قويا فحسب من جهله أسرار الغناء العربي ودهاليزه. يروق للأجنبي توصيف الأصوات بالرقة، والعذوبة، والرشاقة، والشاعرية. هذه الأوصاف للأصوات، هي التي يفهمها الأجنبي، الذي يرى في صوت أم كلثوم ظاهرة استعراضية، وسلطانا ونفوذا لأكثر مما يتحمله الغناء ولأكثر مما تتحمله الحياة العصرية التي تحتاج صوتا على رقة وحتى ضعف فيزيائيين، عكس صوت أم كلثوم الذي غطى في مساحته ديوانين كاملين في علم مساحة الأصوات البشرية. كان لصوتها ذلك التملك، والقوة، والدقة، غير المعهودين في أصوات النساء. ومما يذكره المايسترو سليم سحّاب في دقة صوتها ان تجارب الكترونية أجريت سنة 1975 لقياس نسبة النشاز (اذا صح القول) في الأصوات المصرية الغنائية المعروفة ـ يذكر ان الطنين الكامل بين مقام «دو» ومقام «ري» يتخذ معيارا في القياس، اذ ان تُسع الطنين هو الفارق الذي تستطيع الأذن العادية ان تميزه ـ وأظهرت الآلات الالكترونية ان دقة صوت أم كلثوم بلغت واحدا على الألف من الطنين، ودقة صوت عبد الوهاب واحدا على ألف ومئتين من الطنين. ولا يقال في أصوات كهذين إلا ان دقتهما مذهلة.
حضور أسطوري، ونموذج فني متطلب ومجتهد ودارس الى أصول كل تفصيل في تفاصيل الغناء، ما جعلها تتربع بجدارة على قمته. عناصر كثيرة على ما أشرنا، ساعدتها في زمنها لتقف على رأس قائمة مطربات جيلها وكل جيل، اذ كانت سباقة لمعرفة الظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت ببلدها وشعبها، لذلك جاء توقيع أغانيها نابعا من أرضية الواقع العربي، المتعطش الى السماع والسلطنة، والمليء في آن، بالأحداث السياسية والتفاعلات الاجتماعية اليومية. تجويد القرآن كجزء من طفولتها وظروف عيشها، وحفظه على «الأصول» ساعداها على إجادة نطق الحروف والتحكم بمخارجها، بجانب مساحة صوتها الهائلة التي سمحت بأداء الفقرات اللحنية التي عجزت عنها سواها.
بالاضافة الى الشائعات التي رافقت حياة أم كلثوم، من غرام حياتها الشاعر أحمد رامي، الى عشق الموسيقار محمد القصبجي لها وإصابته بحال اكتئاب عميقة بعد ان عزلته أم كلثوم عن قيادة فرقتها وأحالته الى مجرد عازف على العود، الى زواجها من أحد أبناء طماي الزهايرة قبل ان تأتي الى القاهرة وتعرف الشهرة، الى علاقتها حد الزواج سراً بخال الملك فاروق، سوى أن المؤكد هو زواجها من الملحن الراحل محمود الشريف، وزواج ثان دام سبعة عشر عاما جمعها مع أحد أطبائها غير ان حديثا صحفيا لرتيبة الحفني مديرة «دار الأوبرا» المصرية، كشفت فيه عن زواج آخر ـ غير مؤكد ـ لأم كلثوم مع أكثر الصحفيين قرباً حينها من أم كلثوم هو مصطفى أمين، وقد زعمت حفني ان أم كلثوم نفسها هي من أفشى الى المقربين منها ان عقد زواجها من مصطفى أمين، بقي في عهدة جمال عبد الناصر.
ظلت أم كلثوم حتى آخر لحظة من حياتها التي قضت منها ستون عاما تشدو للجماهير، تخاف مواجهة محبي صوتها، وتجتهد الى التمارين المكثفة، دقيقة في مواعيد التمارين حد المبالغة، وتنصت جيدا وعميقا الى ما يصوّبه في غنائها الملحنين الكبار الذين تتلمذ صوتها على ألحانهم.
يا ظالمني، شمس الأصيل، عودت عيني، هجرتك، لسه فاكر، الحب كده، حيرت قلبي، أقول لك إيه، هو صحيح، غلبت أصالح بروحي، حبيبي يسعد أوقاتو، رق الحبيب، أهل الهوى، أنا في انتظارك، الأمل، والكثير من الأغنيات الوطنية التي حركّت في سديم الجمهور العربي في أكثر من مناسبة ونكبة وحرب.
ظاهرة فوق مستوى النقاش والجدل لما لصوتها من مزايا خارقة، مع ان الكثير من النقاش والجدل مع ذلك، دار حول هذا الصوت الذي اعتبره البعض عطية الهية لسعادة العرب، واعتبره البعض الآخر، سببا في نكساته، وحنجرة عثرة أمام أي تطور فني على مستوى الغناء العربي، سوى أن الكثيرين يعتبرونها (أم كلثوم وصوتها) رمزا وحدويا عربيا وقوميا مشتركا، جمع بين مختلف الأقطار العربية على قلة القضايا التي تجمع ما بين هذه الأقطار، لذلك لاقت ظاهرة صوت أم كلثوم ـ على ما يقول فكتور سحاب ـ عداء غربيا، وشن عليها الغرب، حرب ثقافة استعمارية ضارية ومدروسة وعصرية جدا... وذكية جدا.
يبقى ان نقول، نحن المتلهفين الى اللحظات الضارية في جمالها، النادرة في ضحالة الحاضر، الى أننا نريد منها فحسب، هذه اللحظات التي ترتفع بنا عن بؤس الحاضر، ولا نريد لأم كلثوم ان تنسب الى زمن ومكان معينين، ولا الى أقوام بعينهم، وعقائد وقبائل وأفخاذ وأعراب وعجم وسوى ذلك، نريد لها ان تظل تمتعنا بصوتها، ولهذا الصوت ان يوحدنا، او لا يفعل. انه الصوت الحر الوحيد الذي يسعه ان يفعل بنا ما يشاء.

عناية جابر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...