أدونيس ومقام الحيرة

02-06-2006

أدونيس ومقام الحيرة

ينطوي مفهوم <الحيرة> في المدوّنة الصوفية على كثير من الغنى والتعقيد والتشابك الدلالي. ويمكن القول إنه يتشبع بدلالة إيجابية فاعلة ومركّزة، وذات قدرة عالية على الدفع والتحويل، فهو يتكشّف عن ضرورة نقد الخبرة الذاتية المكونة داخل التجربة الصوفية، بما يسهّل انعكاسها على نفسها لمبارحة فضائها المتشكّل، وتخطّي حدودها المتملّكة، والانفتاح على أفق المطلق في تعدده وشموله ولا نهائيته، وذلك ما يؤسس المعرفة/ الحيرة في أفق التجاوز لا في واقع التملّك والثبات. ولكن هذه المعرفة المتوثبة دائماً هي وقف على أهل الاختصاص، يتمثل أنموذجها الأعلى في <القطب> و<الإنسان الكامل>. فكيف مخض أدونيس الكلام الصوفي في هذا المنحنى وأعاد تركيب عناصره في <أغاني مهيار الدمشقي>؟.
من الملاحظ، على العموم، استخدام أدونيس المتواتر للحيرة بلفظها، أو بمرادفاتها التي تنتسب إلى الحقل الدلالي نفسه، أو التي تقترب منه وتتقاطع معه، ويتمّ حضورها أيضاً بظلالها المعنوية التي ترشح بها علاقات التشكيل، دونما ذكر لها بلفظها أو بما يرادفه ويوازيه. وبناءً على ذلك يمكن أن نتناول توظيف النص الأدونيسي لها في <الأغاني> وفق المستويات المشار إليها.
فعلى المستوى الذي يصرّح فيه بدال <الحيرة> ويتوالى ذكره وحضوره في التركيب الذي يستدعي سياقاته السابقة في الكتابة الصوفية، نقرأ مثال المقطوعة التي تتخذ من مفردة <الحيرة> عنواناً لها في قوله:
لأنه يحار
علمنا أن نقرأ الغبار
لأنه يحار
مرَّتْ على بحارنا سحابهْ
من ناره، من عطش الأجيال
لأنه يحار
أعطى لنا الخيال
أقلامه، أعطى لنا كتابهْ
في العنوان الذي يسمُ النص ب<الحيرة> نجد أن الإشارة تنصرف إلى إفادة معنى الكمال والإطلاق، فهي ليست مجرد <حيرة>، وإنما هي الحيرة الكاملة في صفتها. وفيها يرد الفعل <يحار> ثلاث مرات، ويتكرر التركيب في ثلاث جمل، على شكل علاقة سببية تعليلية، يثبت حدّها الأول، وهو الحيرة، ويتغيّر الثاني، وهو النتيجة المسبّبة عن الأول. لكنه التغيّر الذي يقوم داخل الحقل الدلالي نفسه، فهو بالمحصلة تغيّر يرتد إلى ثبات ضمن الإطار العام المشترك.
ويلاحظ، من جهة أخرى، في نظام تشكيل العبارة أن العلاقة بين الفرد والجماعة تتقرّر على نحو يعلو فيه الفرد، ويغدو مصدر استلهام، في حين تبقى الجماعة على سلبية الانتظار، لا تجاوز حدّ الانفعال والاستمداد. وفي ذلك ما يصل ضمير الفرد المتفوق ب<الولي> و<القطب> الذي تتخطّى فاعليته إطار الجماعة الإنسانية، لتغدو فاعلية تشحن الطبيعة الكونية وتؤثر فيها.
ولما كانت الأحداث النصّية، في المثال الذي أوردناه، تتعرّف بنسبتها إلى الفرد المختار، ذي الفاعلية المطلقة، تعيّن أن الفرد هنا يأخذ مكان العلّة الأولى التي يتوقف عليها مصير الجماعة. نتيجة ذلك أن الحيرة المنسوبة إلى الفرد المختار، هي التي تشحن الحياة، وتصنع التاريخ، وتضيء العالم. وإذا كانت تبدو هي التي توسع حدود المعرفة وتفتحها على اللانهاية، فإنها في الوقت نفسه تظهر بوصفها عالية على التاريخ والبشر، تدور في حلقة نفسها، ولا تتحدد بأية أطر مرجعية.
مستويات الحيرة
إن الحيرة الأدونيسية، إذاً، تتناتج بمقتضى حركتها الداخلية، ذلك أنها مسكونة بنزوعها إلى المطلق ودورانها عليه. والشاعر كما يتبدّى فيها هو صوت هذا المطلق وحضوره في التاريخ، ولذلك فهي غير معنية بالكائن النسبي، الذي لا يحضر إلا بوصفه متكأً هشاً، وآلة لتكشّف المطلق، وإشارة لحظية عابرة إليه. وهذا الدوران في فلك المطلق يجعل المعرفة تنغلق على ذاتها داخل مدارها الخاصّ في الوقت الذي تبدو فيه جامحة كل الجموح. ويعني ذلك أن لحظة التحول تردّ إلى المسار الثابت المتصل، لأن منطق الحركة هو محسوم، ومقرر، ومؤمن عليه قبل المباشرة، وبمعزل عن التجربة التي يتقدمها وينطوي على تعيين منحنياتها. وفي هذا السياق نجد أن حيرة <الأغاني> تعيد إنتاج الحيرة بالمعنى الصوفي في نظام المعرفة الذي تنتسب إليه. وكما أنتجت هناك القطب، والإنسان الكامل مركز الكون، كذلك هي تنتج هنا الشاعر الفرد، الذي يجوز النسبية إلى الإطلاق، في صورة العارف والنبي والشامان. فهو، إذاً جماع المطلق والمقيّد، والكلي والجزئي، والإنسان الإله.
أما في المستوى الذي تحضر فيه الحيرة بما يرادفها ويُشعر بظلالها ومعانيها الحافة، فيمكن أن نشير إلى مفردات مثل: الدهشة والتيه والمتاه والذهول والضياع الخ..... كما في المثال التالي:
الضياعُ الضياعْ..
الضياعُ يخلّصنا ويقود خُطانا
والضياعْ..
ألقٌ وسواه القناعْ.
ومن ذلك أيضاً ما نقرأه في مكان آخر:
لأنني أبْحرُ في عينيّ
قلتُ لكم رأيتُ كلَّ شيّ
في الخطوة الأولى من المسافة.
يتقدّم الضياع في الشاهد بوصفه مستوى من مستويات الحيرة، فهو انخلاع من يقين المنجز والمتحقق، ومغامرة بالماهية لمعانقتها على نحو أكمل وتحقيق امتلائها، ولهذا كان الضياع الأدونيسي قرين الألق والإشعاع، ومؤشر الانعتاق من جحيم الوقعة التي تضرب سياجها حول الذات والعالم. لكن إذا ما قرأنا هذا الضياع في ضوء الشاهد الآخر، تبيّن أنه الضياع المرتسم داخل فضاء المعرفة بالكلّ الثابت، وفي أفق الصيرورة المقيّدة بحركتها الدورية، التي تتحدد معها النهاية في لحظة الابتداء.
على أية حال فإن هذا المستوى من القول يعاد فيه امتصاص الحقل الدلالي للحيرة، ويظهر فيه من جديد التقابل بين الفرد الرأي وركام المجموع أو الحشد في كتلته المتجانسة، بينما يجري التشديد الأسلوبي على <الضياع> في نحو التكرار الذي يركز قوة التوليد المعرفي للحيرة بالمفهوم الصوفي. والحقّ أن أدونيس <ساحر الغبار> و<فارس الكلمات الغريبة> لا يني يتحرك في أفق الإدهاش والغرابة والفرادة الصوفية، وإن كان يصوغ عالماً مغوياً من الأزواج المتضادة والثنائيات الساكنة تحت ضغط السياق الصوفي في انشغاله بالمطلق ولوذانه به. وهو في هذا المستوى يبدي مقدرة عالية على تطويع السياق القديم، بحيث يتوارى مفهوم الحيرة، ويبقى إشعاعه في مفاصل القول، وفي ارتطام ذراته وتحولها في شتى المستويات المكوّنة للحقل الدلالي بطيفه الواسع.
في تتبع مستويات توظيف <الحيرة> في نص <الأغاني>، يبدو واضحاً أن النص الأدونيسي يتكوّن من امتصاص أنساق وتشكيلات نصّية سابقة، يتشرّبها ويعمل على تحويلها وإنتاجها من جديد في سياق رؤيته الخاصة، بحيث يغدو النص الحاضر هو الذي يتكلم ويبني موقعه المتميّز عبر إعادة تنظيمه للعناصر التي يجري استثمارها فيه. وكلّ ذلك ينتج في لحمة نصيّة مركّبة ومتقنة، لا يستطيع كشف عناصرها التكوينية والوقوف على تحولاتها إلا القارئ الخبير. ذلك أننا أمام نصّ لا يمنح نفسه إلاّ للمكابدة الفنية والتبصّر النقدي، الذي يغوص في لجة الحيرة، ويُقيم نفسه في موطن السؤال.
خلاصة الأمر أن أدونيس استقدم مفهوم <الحيرة> من حقل التصوف، وأعاد توظيفه في نصوص <الأغاني> بمستويات تناصيّة مختلفة، مستخدماً قناع <مهيار> الذي يغدو بؤرة التشكّل الشعري، ومركز البناء النصّي، ومنطلق الصرف والتحويل والتشابك الدلالي.
والذي يعنينا هنا أن موضوعة <الحيرة> تتركب على خاصية الخروج والانشقاق الفردي في شخصية مهيار. وذلك ما يعيد، على نحو ما، خاصية التفرّد الصوفي: خروجاً، ومعارضة، وتمرداً، وانشقاقاً، ويعمل على تفعيل أثرها في النص الجديد بشحنه وتخصيبه بها، في الوقت الذي يردّ فيه أثر التشكيل النصي الحادث عليها، ليحرّض طاقتها الإضافية الممكنة، بفعل الاحتكاك الحواري المتعدد الجوانب والمتغاير الخواصّ، الذي يعيد بناء <الحيرة> من حيث هي طاقة إبداع وتجاوز، تجبه الكتلة بالفرادة، وتنقض المؤسسة بالفرد، وتعلق عليه، في تميزّه الفائق وقوة حضوره الهدّامة، شقّ مجرى التاريخ، تاريخ الإبداع والاختلاف والمغايرة، المنوط بالحضور الريادي للفرد الأعلى، الذي تكون الحيرة المتأصلة فيه تأسيسا للمعرفة النافية، وتعييناً لقوة السلب المتفرّد جوهراً لكل إبداع .

 

وفيق سليطين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...