«مذكرات من نجا» لدوريس ليسنغ

30-10-2007

«مذكرات من نجا» لدوريس ليسنغ

تبني الكاتبة البريطانية دوريس ليسنغ (نوبل للآداب 2007)، في روايتها «مذكرات من نجا» (ترجمة محمد درويش، دار المأمون - بغداد) مدينة تعصف بها الفوضى، ينتهكها اللصوص والمشردون. تندثر فيها الحياة الطبيعية، ويغيب عنها القانون ويتحول الأطفال إلى قتلة، فتبدو كأن ما خرجت من حرب طاحنة، أو أنها تنهض على أنقاض كارثة.

في هذه الرواية التي تمزج بين الواقعي والمتخيل والرمز تصبح محاولة العثور على شخصيات واضحة، أو حدث متماسك شبه مستحيلة، فالالتباس والضبابية سمتها الأساسية.

يتوالى السرد في شكل مونولوغ طويل يندفع بلا توقف، يقدم انفعالات الشخوص وأفعالهم، تكشف عن خلل وارتباك كأنهم في لحظة صراع رهيبة، تارة مع عالم خارجي يفتقد المنطق ينهار أمام عيونهم، وأخرى مع ذواتهم نفسها. تنسج دوريس ليسنغ عالماً تفترسه الفوضى في طريقه إلى الزوال، فقط لترصد هواجس الشخصيات، وأكثر الخلجات تخفياً وبعداً من المعاينة. تبدو الشخصيات، أقرب إلى تجل لأفكار الكاتبة منها إلى واقع تحكمه تضاريس محددة. تختار الكاتبة البريطانية فضاء كارثياً، يحتشد بالبدائل والاحتمالات، تسوده الهمجية والوحشية، للولوج إلى طبيعة النفس البشرية، فتتملى وجوهها وتفضح أسرارها. في مدينة يمحي فيها الزمن ويطبع أجواءها رعب مجهول، يتحول السلوك الإنساني إلى موضوع للتأمل واختبار جوهره.

تسرد الأحداث امرأة تتقدم في العمر لا اسم لها، يكتنفها أيضاً الغموض واللبس، غير أن القارئ أثناء ما تحكي يتعرف شيئاً فشيئاً على ملامح شخصيتها. ولا تبرح الساردة تذكرنا بأنها تكتب مذكراتها، تدون فيها ما حصل قبل شهور، لكنها لا تقول شيئاً عن حياتها وماضيها. ولعل غياب الاسم واختفاء الكثير من ملامحها يلائمان الهوية المطموسة للمدينة، في انسجام مع العلاقات المرتبكة التي تنمو بين سكانها الباقين.

من نافذة شقتها التي تطل على الرصيف، تراقب المرأة تفكك العالم أمامها، تشهد الدمار الذي يحل ويمتد أسابيع وشهوراً. يختزل الرصيف مأسوية المدينة المدمرة، التي تخلى عنها سكانها تدريجاً، فالعصابات تجتمع عند الرصيف، تشعل النار وتطهو ما تأكله، وهنا يلتقي الناس الباحثون عن أخبار جديدة، وعما ستؤول إليه الأوضاع.

تراوح «مذكرات من نجا» (الصادرة بالانكليزية في 1974) بين عالمين، عالم واقعي وآخر متخيل أو متوهم. يتوازى العالمان حيناً، ويتداخلان حيناً آخر، إلى حد يصبح التفريق بينهما صعباً. فمن دون تهيئة، تخرج الساردة من عالم لتلج عالماً آخر. تحكي باستمرار، بين مقطع وآخر، عن جدار يخفي خلفه حجرات، مع ناس يعيشون فيها، وفي كل ولوج لها إلى ذلك العالم نلقاهم في وضعيات مختلفة. غير أن الحياة التي تنمو خلف الجدار الغامض، وتجعل الرواية عرضة لتأويلات، ليست جديدة كلياً على الساردة، إذ هي محفورة في ذاكرتها منذ وقت طويل، قبل أن تدرك ماهيتها. تجهد المرأة، التي تنشد التحرر من وطأة الزمن، في استعادة حياتها الطبيعية، في زمن ومكان غير طبيعيين. محاولة العيش هذه تصبح الطريق إلى هزيمة الفوضى والاضطراب.

طوال الرواية تنشغل المرأة بـ «اميلي»، الطفلة التي يتركها شخص ما عندها، طالباً الاعتناء بها ويختفي، من دون أن يتسنى لها الموافقة أو الرفض، وفي خضم الفوضى التي تعم المدينة، يصبح ترك الفتاة وفقاً لتلك الطريق. تقول الساردة إن محاولة التمرد على واقع كهذا يشبه البصق في وجه إعصار، إشارة إلى لا جدوى الاحتجاج.

تشغل اميلي حياة الساردة خوفاً عليها ومنها، وتتحول حياة الطفلة إلى ما يشبه الشريط السينمائي، الذي تراه المرأة خلف الجدار الغامض لغرفة الجلوس. في ذلك الوضع الفريد في دماره وفوضويته، تنصرف الساردة إلى التفكير في شيخوختها، التي يخيف الطفلة وتمثل لها حافزاً في التقدم إلى الأمام. تستخدم اميلي الساردة دافعاً لتعيش حياتها وفق رغبتها، وتلبية لعنفوان الجسد الفتي.

تلمح المرأة في عيني الطفلة غروب حياتها، سأمها وانسحابها من الحياة تدريجاً، فيما اميلي تشهد العكس، حماسة في تحقيق رغباتها، تنطلق من الطفولة إلى عالم الفتيات. كل ذلك تقوله المرأة، تلاحظه وتشعر به ثم تكابده، أيضا تضيء هواجس الطفلة وتقول بصوت عال ارتباكها في الحياة، تخبّطها، لهفتها في النضوج بسرعة، خيبتها العاطفية مع زعيم عصابة شاب.

وإذا كانت الساردة، التي تتساءل إذا كان عليها أن تشكو أو تتذمر، تقف على العتبة، بين عالمين، تراقب من نافذة شقتها ما يحصل في الخارج، فإن اميلي تتمرد على رعايتها وتخرج إلى الشارع، وتنضم إلى عصابة تعيش على الرصيف. في الرواية نشهد عبور الطفلة من طور إلى آخر، تنتقل من براءة الطفولة إلى شغب المراهقة، نلمس التحولات التي تنمو على الجسد، الذي يريد أن يكون فجأة مرئياً ومرغوباً في آن واحد. تحيا اميلي حياتين، حياة واقعية وحقيقية، وأخرى ضمن الأحداث التي تحصل وراء الجدران، التي تلجها الساردة، من حين إلى آخر. وراء الجدران تبدو اميلي موضوعاً لصرامة والديها، لا تمرد يند عنها ولا تغير. فيما نراها تخوض التجربة تلو الأخرى في حياتها الواقعية. المشاهد التي تبصرها المرأة خلف الجدار، لفرط التباسها، يخيل للقارئ أنها لا تخص اميلي، إنما هي نتف من حياة الساردة نفسها.

في مواجهة الدمار والزوال اللذين ترسخها الرواية، تحضر مؤسسة السلطة ومن يمثلها، على لسان المرأة، بصفتها المسؤولة عما يحدث. فالحكومة ومن في حكمها يعيشون كأن لا شيء يحدث، كل شيء ينهار بينما هم يعيشون حياتهم الخاصة، في محاولة لإبعاد كل ما هو سيئ في أحاديثهم ورغباتهم وتشريعاتهم، فالاعتراف بما يحصل، معناه: «الاعتراف بلا جدوى وجودهم والاعتراف بالأمن الإضافي الذي يتمتعون به»، وكل ذلك ليس سوى الآلية الأقوى للاحتفاظ بالمجتمع أولاً، ثم الهيمنة عليه والعمل لتدميره وانهياره».

في مناخ روائي مثل هذا، يكتنفه الرعب والفوضى، يغيب الفرد أو النزوع إلى الفردية، على نحو مشوش وغائم، وتبقى السيادة لكل ما له صبغة جماعية، تغدو الجماعة ملاذاً أو وطناً تأوي إليه حشود المشردين، من دون جدوى.

أحمد زين

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...