«كلاب العزلة» لفوزي يمين

29-08-2007

«كلاب العزلة» لفوزي يمين

اختيار الكلاب للحديث عن العزلة في كتاب يمين الصادر حديثا عن دار النهضةهو عملية تفسير للعزلة بوصفها إقامة إلزامية داخل الخواء المرعب الذي تفرضه الحشود. لذلك فإن العزلة المستهدفة بالحديث هنا هي عزلة منتقاة ومعززة بتجربة الإقامة في المدن وفي الأحداث التي ربما صار من الممكن تصنيفها كأحداث مدينية، وأبرزها طبعاًحالة الحرب بكل صورها. اذاً المدينة حرب والكلاب هم المنشدون الذين يمجدون أوهامها، وهي أيضا حشد اللائذين بالعزلة في محاولة للفرار من تداعياتها. العزلة المعنية في هذا المجال هي عزلة تأتي تماماً من داخل المجال الذي تهرب منه بل إنها تشكل الوجه الآخر له الذي لا يكتمل الا بحضور الوجه الآخر وهذا ما يعطي لهذه العزلة مأساويتها كونها لا تستطيع الا الالتحام بأسباب شقائها وأن تختار رمزاً غير أصلي لعرض نفسها وهو الكلاب، كون الكلاب ليست بنتا شرعية للعزلة بل هي كائنات موجودة دائماً في ضوء المدينة الساطع وفي زينتها وقي حياتها، سواء أكانت كلاباً شاردة أو كانت كلاباً مدللة تعيش في البيوت. لماذا هذا الركون إلى كائنات لا تستطيع حمل الثقل الدلالي للعزلة واعتمادها كتكثيف يحاول ان يكون تكثيفاً أقصى للعزلة؟. عن أي كلاب نتحدث بالتحديد وهل الحديث يتناول فعلاً الكلاب أم يقدمها كمعطى على دال كامن في مجاهل الكتابة وربما في اعماق الأساطير؟
كلاب الالفة وتلك الكلاب الخانعة التي تغرق المدينة بعوائها المستجدي حينا والمتغنج في أحيان أخرى لا تستطيع الا أن تعزل الكتابة عن نفسها إذ أنها تحيل دائما إلى سياق منجز وتام، وحتى المفارقات الموجودة فية تبقى مفتقرة إلى معنى يمكن للشعر الإستعانة به أو رصده.
ما هي هوية كلاب العزلة إذاً وما هي مصادر نفوذها الشعري الذي جعلها تبسط نفوذها على النص بمثل هذه السلطة التي يدل عليها احتلالها للعنوان من حيث هو تكثيف وترميز لكامل محتوى النص.
هكذا نفهم أن الكلاب المقصودة هي كلاب الهاجس تلمع فجأة فقط لتضيء شعلة الكابوس ثم تنسحب مخلفة وراءها قيمة سردية لا تجيد تحويلها إلى قص سوى مخيلة تبحث في ذاكرة الخوف عن موضوعاتها ثم تقدم صور هذا الخوف في حدودها القصوى العامرة بالحيل أي الشعر.
ذاكرة الخوف هذه لا تعتاش على الأوهام بل على العكس فإن مشكلتها الكبرى هي اتكاؤها الدائم على الوقائع. لذلك لا بد من عملية اختزال لهذه الوقائع التي ينوء بحمل حضورها القاسي كل من خبر الحرب. لذلك فإن هذا الخلط بين المخاوف الواعية التي يمكن أن تصبح نقدا واعيا للحرب وتلك المخاوف الطفولية غير الواعية التي تتمثل في اختراع كائنات خرافية وتحميلها ثقل الخوف الصالح للتبلور في خطاب شعري هو المعادلة التي تسمح لنا بالكشف عن هوية الكلاب.
انها كلاب حقيقية وواقعية ومؤسطرة في آن واحد. الحادثة الشهيرة التي قامت فيها مجموعة من الكلاب المتوحشة بافتراس المسحراتي أثناء قيامه بمهمته، وتلك القصص التي شاعت بعد فترة وجيزة من انتهاء الحرب والتي تتحدث عن كلاب مفترسة متوحشة تظهر في المناطق التي كان الناس لا يستطيعون الوجود فيها، أي أن هذه الكلاب لم تعاين الإنسان إلا بوصفه جثة هامدة، وربما يعود توحشها إلى أن معاينة الناس الأحياء هو موضوع يقع خارج امكانيات فهم هذه المخلوقات التي كانت تعيش في المناطق التي أصبحت لاحقا من أكثر المناطق ترفاً، أقصد منطقة الأسواق التجارية وتالياً بقيت مناطق عزلة، لكن الفرق الذي يمكن ملاحظته هو أن الكلاب التي تتنزه في ربوعها لم تعد الكلاب المفترسة بل أصبحت كلاب الغنج والرخاوة المسرفة.
الكلاب التي يقصدها النص إذاً هي ليست الكلاب التي تؤسس بل الكلاب التي تهدم. هي الكلاب التي تجرح المدينة والمستعدة دائما للظهور لكي تخدش زجاجها الشفاف الذي يخفي وراء صخبه عزلة قاسية وصلبة تحتاج إلى منشدين (عوائين) يفككون متانتها.
كلاب التسمية المقلوبة
فعل المعرفة كما تصوره أساطير الخلق هو فعل تسمية لأن من يملك الأسماء يملك سلطة الخلق، كون الإسم هو حامل وجود المسمى وبدونه تنتفي امكانية الوجود. من هنا تبدو التسمية هي التظهير الفعلي للخلق وخاصة في ارتباطة باللغة.
يقول يمين في قصيدة بعنوان :«في أرض العزلة»: «في أرض العزلة ، كلاب تحتل ردهات البيوت الخالية ليلاً. تمدّد بطونها الخاوية على غبار البلاط، تمغط أعناقها ثم تعوي بالمقلوب وهي تعدّ أسماء أصحابها المتخمين تتدلّى كروشهم من نوافذهم».
الحرب هي أرض العزلة وهي التي تجعل البيوت خالية، أي تجعلها قبوراً. الإضاءة التي يقترحها الشاعر للمشهد وهي الليل الخالي من الضوء أو الذي يحمل شحنة ضوء خافتة تساهم بزيادة التعمية إذ أنها تقدم صوراً غير واضحة فاتحة المجال أمام سلطة الكابوسي. الإضاءة الوحيدة إذا هي للحرب التي حين تشعل الحرائق فإنها لا تهب نوراً ولكن عرساً للموت.
ليس هناك مكان للتمركز إذ أن البلاط المغبر الموجود في أرض منذورة أساساٍ للعزلة يسمح باعتبار هذا البلاط غباراً بدوره، وهكذا لا يكون هناك بلاطاً مغبرا بل غبار كان يوماً بلاطاً وأصبح غباراً فالغبار وحده يسود وينتصر. الغبار وحده يستطيع حمل الوجود بالحرب لأنه يمثل الغائم في أقصى حدوده فهو ليس وجوداً تاماً كما أنه ليس عدماً تاماً. إنه النزوع المتوازي نحو الأضداد لذلك فهو لا يملك هوية مثله مثل العناوين التي تحاول الحرب الاتكاء عليها لتبرير نفسها. لذلك نجد أن الكلاب جائعة ولكن إلى ماذا؟ جوع الكلاب هو جوع إلى الهوية إلى تمركز ما في موت لا زال ناقصاً. يبزغ الطقوسي في هذه اللحظة ليقوم بعملية ابتلاع للموقف كله. العواء المقلوب يستحضر الشؤم ونذر الكارثة. هكذا ينقلب الوجود بالأسماء فتقوم الكلاب بمهمة عكس الخلق بالأسماء فعملية عدّ الأسماء في حالة العواء المقلوب تجعل منها هي أيضاً اسماءً مقلوبة مبتلعة داخل شدق الكلاب التي صارت اسماً للموت أي وجودا خاصاً له.
الناس الذين تتدلى كروشهم من شرفاتهم هم ناس بلا أحشاء كون النوافذ تمثل الحدود الخاصة التي حين تفتح فإنها تحيل إلى عالم بتنا نعرف أنه المجهول لذلك فإن الكروش هي احشاء مبعثرة والنوافذ هي في هذه الحالة حدود متشظية للقبر. إذا نحن إزاء جثث ملقاة في عراء العزلة حيث مجزرة الأسماء تعني دوماً مجزرة عليا، مجزرة على مستوى الوجود.
ترويض الهاوية
يقول فوزي في مقطع من قصيدة:«كلاب العزلة»: «من الواضح أنه ما عاد يطيق الطرب العربي أبداً ولا يستسيغه في أية جلسة من الجلسات. لكنه، تفادياً للإحراج، يفتيها بالقول إن الاستماع إلى ام كلثوم حلو «من بعيد». وصلت به الحال إلى مرحلة بات يشعر أن في الطرب تكراراً مملاً، بحيث يعيد المطرب الجملة نفسها اكثر من مرة ـ ولو في كل مرة بطريقة مختلفة ـ كأنه يستغشم المستمع أو يعتبره لا يفهم من المرة الاولى. أصبح واضحاً ميله إلى الموسيقى التي تصيب من مرة، ضربة واحدة سريعة وعميقة في العمق. انعكس هذا المزاج الموسيقي على جميع مواقفه في الحياة، مما رماه في ما يشبه العزلة غير المتعمدة».
الطرب بهذا التكرار الذي يحفل به يبدو وكأنه عملية تعذيب طويلة وليس تعدد الأساليب التي يتكرر فيها المقطع أو الجملة الغنائية إلا تلوينا للتعذيب. الفتوى بأن الاستماع إلى أم كلثوم حلو من بعيد تشبه حالة من التفرس في الموت دون الوقوع فيه، ولكن الموت هاوية تخترق إذا ما أديم النظر إليها. تبدأ حركة الهاوية بالتصعيد شيئاً فشيئاً فترتدي بداية ثوب الملل الذي يعني اليأس الممهد لحضور الموت فالملل هو تاج الفراغ والخواء أي يمكن القول إن الملل هو من تفاصيل الموت الأكثر لصوقا وحميمية. هو استبداد واستعلاء وسادية لأنه (يستغشم) المتلقي، أي أنه لا يقتل من المرة الأولى. بعد ذلك يصل تصعيد الهاوية إلى أقصاه وإلى النتيجة الختامية وهي الموت المباشر بضربة واحدة تخترق الأعماق.
السرعة المطلوبة في هذا الموت هي محاولة لسبقه بهدف النظر إليه من قفاه والسخرية منه، وهو الأمر الذي لم يكن ممكناً في البطء والتكرار. لا يهم بعد ذلك إذا تحقق الموت فعلاً أم لا لأنه حين ينمو هذا المزاج الانتحاري ويصبح السلوك والسيرة فإن الموت يصبح محاصرا بالوضوح، وهو الأمر الوحيد الذي يقتله والأمر الوحيد الذي يعطي الحياة معنى أو كما يعلن سيوران متفاخراً: «لا أحيا إلا لأن في وسعي الموت متى شئت. لولا فكرة الانتحار لقتلت نفسي منذ البداية».
العيش في ظــل الانتحار الذي من الممكن تنفيذه في أية لحظة يبرد الموت ويفقد كمائنه شراستها وفعاليتها ويجعل العزلة غير المتعمدة (الحياة) ممكنة.

شادي علاء الدين

المصدر: السفير


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...