«الأسلحة غير الفتّاكة» والحدود الملتبسة بين القمع والحرب

01-03-2008

«الأسلحة غير الفتّاكة» والحدود الملتبسة بين القمع والحرب

أحياناً، تبعث مقولة «الأسلحة غير الفتّاكة» على السخرية المرّة، فأي حكمة في أن تنتج صناعة السلاح أسلحة دمار بات مخزونها يكفي لتدمير الأرض أكثر من مرّة، وأن ترمي بثقلها، في الوقت عينه، لتجميل صورة السلاح وجعله «لطيفاً» ورفع صفة القتل عنه؟ من الممكن إذاً التفكير في سياق مختلف لظهور الأسلحة «غير الفتّاكة» Non Lethat Weaponss وصناعتها. والأرجح أن الوسائل القمعية التقليدية، مثل الرصاص المطاطي، القنابل الدخانية والمسيلة للدموع، خراطيم المياه المضغوطة، الأسواط والهراوات التقليدية وغيرها، لم تعد تكفي لمواجهة احتجاج الحشود في الشارع.

ولذا، ظهرت أجيال من أسلحة القمع المتقدمة في أكثر من دولة متطورة. ووصلت أحياناً إلى أيدي عصابات وجماعات إرهابية. ويلفت أن الدول والعصابات تستخدم الأنواع الأكثر كفاءة من الأسلحة غير الفتاكة، لزيادة قدرة آلتها الحربية في... القتل! ثمة حدود ملتبسة بين «غير الفتاك» و «القاتل» في الأسلحة.

ففي اليابان مثلاً شنّت طائفة «الحقيقة العليا» («شيزي أوم») الإرهابية عشرات الهجمات بالغاز القاتل في مدن عدّة.

تلقت طوكيو هجمتها الأكثر شناعة في 20 آذار (مارس) من العام 1995 حين أطلق إرهابيوها غاز الـ «سارين» في خمس عربات مترو أنفاق، فأصيب 6000 شخص، مات 12 منهم على الفور. وبحسب دافيد فيدلر أستاذ القانون في جامعة «انديانا» في الولايات المتحدة، فإن خليط من الأسلحة غير الفتّاكة والتقليدية، يجعل الحرب أكثر دموية. ففي حرب فيتنام مثلاً، استخدم الجيش الأميركي الغازات المسيلة للدموع لإجبار قوات الفيتكونغ على الخروج من الكهوف والأنفاق، ثم عمد الجنود إلى إطلاق النار وقتلهم.

منذ العام 1999، خصّصت حكومة الولايات المتحدة مئات بلايين الدولارات في بحوث سرية عن صنع أسلحة مصممة مبدئياً لإصابة الأشخاص بالعجز الموقت، من دون إلحاق أضرار دائمة بهم. وبحسب التعريف الذي اعتمده «مركز حل النزاعات» في جامعة «برادفورد» البريطانية، توصف «الأسلحة غير المعدّة للقتل»، بأنها تلك التي تعمل على شلّ قدرة الخصوم من دون التسبب بإعاقة دائمة (جسدياً ونفسياً)، ولا يترك استعمالها أثراً سلبياً على البيئة والممتلكات، مع ملاحظة أن يكون مفعولها موقتاً. ويُفترض أيضاً أن تكون انتقائية التأثير، بحيث لا تتسبب بآلام غير ضرورية، وينبغي أن تكون بديلة من استعمال القوة القاتلة، أو أن تساهم في تأجيل القرار في شأن استخدامها.

وفي تبريرها لبحوثها المُكثّفة حول «الأسلحة غير القاتلة»، تسهب وزارة الدفاع الأميركية في شرح الحاجة المتزايدة لهذه الأسلحة. فبحسب تقرير للبنتاغون نُشر في تموز (يوليو) 2002، هناك الرغبة في تقليص الوفيات في النزاعات المسلّحة وعمليات الاحتجاج الجماعي. ويضاف إليها أن القوات الأميركية باتت تواجه، وفي شكل متزايد، تحديات ميدانية من نوع جديد يعرف باسم «العمليات العسكرية غير الحربية». ويندرج ضمن هذه العمليات المساعدات الإنسانية والدعم العسكري للسلطات المدنية، وعمليات صنع السلام والحفاظ عليه، وعمليات الإخلاء غير القتالية وغيرها. وتستدعي هذه العمليات حضور القوات الأميركية بحسب التقرير عينه، في دول مختلفة من أجل تخفيف الاضطرابات بين المدنيين وحفظ النظام والاستقرار ومواجهة التهديدات وغيرها. وصارت القوات الأميركية تواجه مهمات دقيقة، خصوصاً حين تكون في إطار قوة دولية متعددة الجنسية أو ضمن عمليات متداخلة بين وكالات الاستخبارات الدولية، أو أثناء تنفيذ مهمات إنقاذ الرهائن، أو القبض على مذنبين أو إرهابيين، أو التحكم بالاضطرابات والشغب وغيرها.

كانت البدايات الجديّة لتطوير الأسلحة غير القاتلة وتصنيعها في شكل واسع في الجيش الأميركي في العام 1995، موعد الانسحاب النهائي لقوات الأمم المتحدة من الصومال. وقد أعطيت مهمة حماية القوات المنسحبة للضابط الأميركي اللّيوتنات جنرال زيني، الذي فكر باستعمال الأسلحة غير القاتلة، وسارع بالطلب من قيادته تأمين تكنولوجيا هذه الأسلحة لاستعمالها في مقديشو المضطربة. ومنذ ذلك الحين سارعت السلطات الأميركية لإنشاء فرق بحث ودراسات ومؤسسات متخصصة بتطوير هذه الأسلحة وتنويع مصادرها وموادها وتأثيراتها. لكن كان واضحاً منذ البداية أنه لم يكن في نية الأميركيين أن تعمل الأسلحة غير القاتلة بدلاً عن ولكن أن تزيد من قدرة أنظمة وذخائر ميدانية موجودة حالياً وقائمة. وفي كل حال، فعندما تستعمل الأنظمة غير القاتلة، فستكون لها دائماً مساندة من نظام قاتل.
تتعدد أنواع الأسلحة غير القاتلة المصممة للتحكم بالأشخاص المواجهين وشل حركتهم موقتاً أو دفعهم لإخلاء ساحة المواجهة.

وتتضمن الأسلحة التي تطلق ذخائر لها رائحة كريهة، وتلك التي تطلق ذخائر من مواد مهيجة أو مسبّبة للحكة. كما تُستعمل مواد تعيق الحركة، لأنها تتألف من عناصر هلامية شديدة الانزلاق، تُنثر على الأرض لمنع اقتراب الجموع والأفراد والسيارات من مناطق محدّدة. وغالباً ما تطلق مثل هذه الذخائر بواسطة طلقات من عيار 20 ميللمتراً مصممة لنشر السوائل اللزجة والدخان وغازات الرائحة الكريهة والبودرة وغيرها، في اتجاه محدد تصوّبه البنادق المتخصصة.

كما تستعمل تكنولوجيا الضغط والحرارة لصنع أسلحة غير قاتلة تنتج برقاً شديد اللمعان، أو أصواتاً عالية القوة، أو حرارة موجهة أو التسبب في الاحساس بالانضغاط، ما يشتت تركيز الأفراد ويشلّ قدراتهم في شكل موقت. وأختير اللون الأخضر الفاتح كلون يرمز للذخائر غير القاتلة ومكوناتها الأخرى!

وفي السياق عينه، تعمل الأسلحة البيوكيماوية (وتسمى أيضاً «الأسلحة الصيدلانية») على شلّ الجهاز العصبي المركزي، ما يسبّب فقدان الإدراك أو الخَدَر أو حالات الغياب عن الوعي، وربما... الوفاة.

وهناك أيضاً جيلٌ جديد من الأسلحة الكهربائية غير القاتلة تصنّع كأجهزة محمولة مصممة لأغراض التحكم بالشجار أو للحماية الشخصية، وتعتمد على إطلاق صدمة كهربائية، تصل بوضع السلاح على جسد المستهدف مباشرة، أو تصله من مسافة غير بعيدة.

وتأتي في سياق هذه الأجهزة أيضاً عصيّ وبنادق تُصدر شحنة كهربائية صاعقة، تصيب الجسم بالشلل الموقت، الذي يرافقه كثير من الألم.

وتندرج في السياق عينه، الأسلحة الصوتية غير القاتلة، التي طُوّرت من مكبرات صوتية في غرف التعذيب إلى أسلحة تستطيع قذف ضجيج عالٍ مؤلم في اتجاهٍ محدد.

وتتجه البحوث حالياً نحو تكنولوجيا «الطاقة الموجهة»، بغية إنتاج أسلحة كتيمة الصوت تطلق قذائف تحمل طاقة نابضة، كما ترسل رزماً من الأشعة الكهرومغناطيسية أو الطاقة الكهروحرارية. وتُستعمل البحوث الطبية البيولوجية في هذا المجال، لكي ترفع من قدرة ذلك العتاد على زيادة الألم إلى أقصى حدّ ممكن. فعند إصابته، يشعر الفرد المستهدف خلال ثوان قليلة بألم شديد لا يُحتمل، لكنه يتوقف فور توقف السلاح او أنحراف شعاع الطاقة عن المُستَهدف. ويتيح الانزعاج الموقت والاضطراب والتعمية الناتجين عن الذخائر غير القاتلة للقوات التي تستعملها، بعض الثواني القليلة الضرورية لاستغلال الموقف والسيطرة على تصرفات فرد أو مجموعة، وبالتالي إتاحة الإمكانية لمفاجأة الأشخاص المقصودين واعتقالهم.

وفي المقابل، يرى البعض أن «الأسحلة غير القاتلة» لا تنسجم دوماً مع المعطيات العملانية واللوجستية، ومجريات المواجهات التي قد تستخدم فيها. ففي سياق قمع تظاهرة، لا بد من حدوث جروح وكدمات مختلفة، خصوصاً مع تعرض البعض لأنواع الطاقة التي تحملها الذخائر غير القاتلة. فحتى لو استعمل السلاح غير القاتل في شكل ملائم منسجم مع شروط استعماله المثلى، فإن احتمال الجروح الخطرة أو حتى الموت ليس معدوماً تماماً.

فهل تحدّ فنون «الأسلحة غير القاتلة» من الإصابات المميتة، أم أنها تقدّم أدوات إضافية لجنون القتل؟

أحمد شعلان

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...