غسان الرفاعي: في ذكرى «البدوي العاشق»

26-07-2010

غسان الرفاعي: في ذكرى «البدوي العاشق»

كتب أحد الإعلاميين الفرنسيين بعد 11 أيلول: ينبغي أن يخجل المستشرقون بعد الآن من التحدث عن سحر الشرق وثراء الفكر العربي!، ولم تمض فترة وجيزة حتى أخذ المعروفون بتعاطفهم مع الثقافة العربية،.

أو بعلاقاتهم «الودية» مع العواصم العربية يتوارون عن الأنظار، أو على الأصح بدأت تواقيعهم تختفي من الصحف ووسائل الإعلام ولئن أصبح المناخ الحالي أكثر جرأة، وبدأ بعض من عرف عنهم انبهارهم بالحضارة العربية يكشفون عن «عوراتهم الشرقية» -كما يقال- بسبب انفضاح العنصرية الإسرائيلية وتهتك المطامع العدوانية الغربية، فإن المنابر الفكرية والإعلامية لا تزال تفسح فضاءاتها للمغرضين والمشوهين. ‏

(جان بيير شوفنمان) المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، ووزير الدفاع الفرنسي السابق الذي قدم استقالته احتجاجاً على حرب الخليج، دعا مجموعة من المثقفين الفرنسيين والعرب في نهاية الأسبوع المنصرم، إلى داره للاحتفاء بذكرى وفاة المستشرق الفرنسي الكبير (جاك بيرك) الذي ختم حياته بترجمة مشرقة للقرآن الكريم. ‏

اختفى كشمعة ذابلة، دون أن يخلف وريثاً كشجرة سنديان بلا أغصان في العراء وقبل رحيله بيومين قال بلغة عربية متألقة: عشرون عاماً، وأنا أحاول أن أنقل سحر القرآن إلى الفرنسية، عشرون عاماً، وأنا أتعثر، وأتخبط، ولكنني أنجزت الوعد، آخر الأمر وأنا على مشارف المغيب وها أنا أستكين راضياً، مرضياً. أكان (جاك بيرك) آخر عمالقة الاستشراق النزيه على علم بدنو أجله حينما أفضى باعترافه هذا؟ هل كان يكتب وصيته حينما أعلن: نعم، أنا معجب حتى الذهول بهذه الحضارة العربية الإسلامية التي قد لا تروقكم، نعم أنا مسكون حتى الفجيعة بهذا الشعب العربي الكبير، الذي يحاصر و يهان ويسحب من التاريخ على أقساط..! ‏

والمفارقة أن (جان بيير شوفنمان) وكان قد استقال من وزارة الدفاع الفرنسية احتجاجاً على موقف بلاده من حرب الخليج –هو الذي أعلن نبأ وفاة المستشرق العملاق، وبهذه الألفاظ التي تقطر تشاؤماً: غادرنا (جاك بيرك) ونحن بأمس الحاجة إليه خصوصاً الآن ونحن نخوض معركة ضارية ضد أكبر عملية تزوير للحضارات وللتاريخ القديم والحديث! وذكر السيد (شوفنمان) بموقف (جاك بيرك) المتميز من قضية (سليمان رشدي) حينما كتب يقول: لو أن كاتباً إيرانياً هو الذي وضع هذا الكتاب لكنت أيدته بلا تحفظ، ولكن أن تشوه سيرة النبي (محمد) في بلادنا فهذا جبن, أنريد أن ننتقم من المسلمين في بلادنا؟ ولكنهم مضطهدون بما فيه الكفاية وليسوا بحاجة إلى فرية جديدة لتأليب الرأي العام ضدهم، أما المثقفون الفرنسيون الذين يدافعون عن حق الاختلاف فهم آخر من يحق لهم أن يتحدثوا عن هذا الحق، إنهم لا يجرؤون على مخالفة دار النشر (غاليمار) التي يحتاجون إليها وإلى رضاها لنشر كتبهم ومؤلفاتهم..؟ ‏

قرية سان جوليان - اوت - بورن في منطقة اللاند ‏

كان (جاك بيرك) جالساً وراء مكتبه المتواضع ملتفاً بعباءة مغربية مذهبة، وحوله تلال من الكتب القديمة والحديثة وعلى الجدران لوحات فنية شرقية يغلب عليها الطابع المغربي وفي كل مكان أوان نحاسية مزركشة بخطوط عربية كوفية وأرائك صغيرة مصنوعة من وبر الإبل. ‏

قال لي، وهو لا يخفي مرارته وغضبه: أنا أعيش ازدواجية عبثية تسلمني إلى ما يشبه الدوار، حينما أبقى جليس مكتبي، مع دواوين شعركم ومؤلفات حكمائكم وفلاسفتكم أرقى إلى أعلى درجات التصوف والعشق الإلهي وحينما أزور عواصمكم وأتحدث مع سياسييكم أهبط إلى أدنى درجات الإسفاف والفجاجة، يخيل إلي أنه لا يوجد إلا تفسير لفهم هذا التباين الصارخ: أما إنكم لا تستحقون هذه الرسالة الإلهية التي هبطت عليكم، وأما أن الرسالة ليست للبشر وإنما للملائكة. السؤال الكبير الذي يؤرقني هو: «هل أنتم مطاردون بلعنة إبليس أم إنكم ممسوسون، تفرطون بكل مخزونكم الروحي والثقافي؟..». ‏

وقلت له، وقد أثارتني نظريته عن الازدواجية العبثية: الفجيعة أن رسالتنا كانت دوماً محاصرة ومشوهة وقد يكون الاتساخ في مجتمعنا المدني نتيجة لرفض الآخر أو بالأصح لإصرار الآخر –وهو دوماً أنتم في الغرب- على تصفية الحضارة العربية كهوية ورسالة.. ‏

وقاطعني وقد ظهرت عليه إمارات الرضا: نعم الرغبة في التصفية عندنا فيزيولوجية إلى حد ما، لحرب الصليبية مع ما تحمله من كراهية وحقد، الفتوح الاستعمارية مع ما رافقها من عنجهية وتعجرف، واليوم هذا السعير الهستيري ضد الأصولية، في محاولة لتعبئة الرأي العام ضد خطر أخضر مزعوم بعد زوال الخطر الأحمر.. ‏

كان (جاك بيرك) يشعر بفداحة العنصرية الغربية قبل جنون الحادي عشر من أيلول، وما أحدثته من شرخ في العلاقات بين الشرق والغرب. ‏

كان (جاك بيرك) حريصاً على أن يساهم في تحرير مجلة «نور- سود» التي كنت أصدرها في باريس باللغة الفرنسية لتكون منبراً للحوار بين الشرق والغرب، وواحة اللقاءات بين مثقفي ضفتي البحر الأبيض المتوسط، كان يأتي إلى مكتبي في شارع بونيتو حاملاً مقالاته بنفسه وكان يحلو له أن يطرح علي بعض خواطره الطازجة قبل تسليم المقال، بتواضع وسخرية معاً. أذكر أنه اعترف لي في زيارة من زياراته، أنه قد بدل رأيه فيما يتعلق «بحق الاختلاف» وشرح لي المقصود: «حينما كانت حرب التحرير الجزائرية على أشدها كنت أطالب بحق الجزائري المسلم أن يكون مختلفاً عن الأوروبي بسبب انتمائه إلى حضارة وتقاليد اجتماعية، ولرؤية كونية مختلفة ولكنني اليوم أطالب بإسقاط هذا الاختلاف، خصوصاً في فرنسا، لأن الغرب استغله لخلق «غيتو إسلامي» داخل مدنه بهدف عزل المسلمين وعدم إدماجهم في الحياة العامة، وإذا كان علي أن أختار بين الاندماج مع الحضاري والغيتو العنصري فأنا لا أتردد: أختار الاندماج والتواصل لأنهما أكثر إنسانية وأخلاقية..» ‏

كان «جاك بيرك» يعشق العصر الجاهلي ويرى فيه (مخزناً ساحراً للفضائل العربية) وقد بالغ في امتداح كتاب (زكي الأرسوزي) ولاسيما كتابه عن (عبقرية اللغة العربية) كما بالغ في تسفيه آراء (طه حسين) في كتابه عن (الشعر الجاهلي) وكتب: (لا يجوز لأحد أن يشكك في أصالة هؤلاء الشعراء ولا في وجودهم لأنهم يلخصون في معلقاتهم أعجاز الفطرة وسمو السليقة.. ‏

ولم يكن عشقه للأمويين أقل من عشقه للجاهليين، إذ وجد فيهم (خلاصة الأصالة العربية) وأغلب الظن أنه كان من المتحمسين لنقاء الأصل العربي وهذا ما دفعه إلى شن حملة على (الشعوبيين) الذين كانوا يسخرون ويستخفون (بالبداوة العربية). ‏

وكان من المعجبين بالحركة النهضوية ويراهن على قدرة مثقفي النهضة على تحرير العرب من التخلف والانحطاط، وقد أصيب بخيبة أمل كبيرة حينما فشل النهضويون في تحقيق مطامحهم تاركين لمثقفي الردة أن يسيطروا على الفضاء الثقافي. ‏

وقد تعاطف مع الثورة الناصرية إذ وجد فيها (تكملة للنهضة) وطالب الغرب بتفهمها والتعاطف معها لأنها (المدخل إلى الحداثة والمعاصرة) كتب يقول: ساذجون من يعتقدون أن الناصرية هي رفض للغرب والحداثة، إنها رفض للتخلف والخمول العثماني... ‏

وحينما شدد (السادات) قبضته على المثقفين الناصريين تبرع (بيرك) باستضافتهم وتمكن من مساعدتهم وإيجاد عمل لهم في الجامعات الفرنسية مثل (محمود أمين العالم) و(غالي شكري) و(ميشيل كامل). ‏

باريس قاعة المحاضرات في معهد العالم العربي ‏

حشد كبير من رجال السياسة والثقافة والفن، وصورة كبيرة مجللة بالسواد لـ (جاك بيرك) في صدر القاعة، وفوقها (بيرك) العاشق المتصوف ومنبر تعاقب عليه جامعيون وسياسيون وكتاب, والمناسبة هي تأبين (جاك بيرك) في ذكراه الأولى. ‏

قال عريف الحفلة وهو يقدم الدكتور (عبد السلام العجيلي) رحمه الله: كان (بيرك) يسميه صديقه الوحيد كان يعترف بفضله وغزارة معلوماته كتب عنه في مقدمته للترجمة الفرنسية للقرآن الكريم، (العجيلي ربان السفينة التي ركبتها لأشق طريقي في أوقيانوس اللغة العربية الغنية السخية، وكم أنقذني من الغرق وكنا نقرأ معاً شعر المعلقات و(المتنبي) و(أبي العلاء المعري) وكنا نستمع بخشوع إلى ترتيل القرآن بصوت مقرئ كبير، وكان رائعاً في تفسيراته وشروحه هذا الطبيب البدوي، السياسي، الحاذق، الأديب اللامع، الشاعر المرهف أدخلني إلى جوف حضارة ساحرة، وأسكنني بساتين معطرة مازلت أستنشق رائحتها الذكية). ‏

وتقدم الدكتور (العجيلي) من المنبر بهدوء وارتجل كلمة بلغة فرنسية تغلب عليها اللكنة البدوية وفتح أمامنا أضمومة ذكرياته عن (جاك بيرك) في الرقة وباريس والقاهرة وروى لنا بأسلوبه الممتع الفريد نثاراً من المفارقات التي كان يعيشها مع (بيرك) وكان ما قاله على ما أذكر: صدقوني (جاك بيرك) بدوي من العصر الجاهلي أشبه ما يكون بـ (طرفة بن العبد) لم يكن يشعر بالأمان إلا إذا ضاع في الصحراء العربية ولم يكن يطرب إلا لسماع الشعر العربي وكم تغنى معي بشعر (بدوي الجبل) و(عمر أبو ريشة) و(نزار قباني). ‏

رحم الله (جاك بيرك) فقد كان مستشرقاً نزيهاً صادقاً مع نفسه ومع الآخرين وكم نحن بحاجة إليه في هذه المناخات العدوانية الخانقة التي تعبق برائحة العنصرية والكراهية. ‏

ورحم الله صديقنا الكبير الدكتور (عبد السلام العجيلي) فقد كان شامخاً في مواهبه وفي سلوكه وفي كتاباته. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...