المثقف العربي «الملحمي» وجيل اللحظة الراهنة

01-07-2010

المثقف العربي «الملحمي» وجيل اللحظة الراهنة

تُعدُ «الموسوعة العربية لعلم الاجتماع» (الدار العربية للكتاب، تونس) من الأعمال الكبيرة التي احتشد لإنجازها عدد من المفكرين العرب عملوا مجتمعين ومتفرقين على وضع حدود وتعريفات لمئة وسبعة وعشرين مصطلحاً تتصل بسبب قوي بعلم الاجتماع، من بين هؤلاء المفكرين نذكر: سمير أمين، حليم بركات، علي أومليل، الطيب التيزيني، عبدالعزيز اللبيب، برهان غليون، حسن حنفي...

أما المصطلحات التي انعطفوا عليها بالنظر والتأمل فينتظمها، على اختلافها، وتباين مصادرها، خيط جامع وهو ترددها في الخطابات المعاصرة تردداً لافتاً. فهي جزء مكين من المعجم الحديث، رسختها في الذاكرة عوامل اجتماعية وثقافية شتى.

بعض هذه المصطلحات يرتد إلى الثقافة الغربية، متحدر من العلوم الإنسانية التي ولدت وترعرعت في أحضان هذه الثقافة، وبعضها الآخر يرتد إلى الثقافة العربية، موصول بتاريخها السياسي والفكري. لكن، إذا كانت المصطلحات الأولى قد تحولت، منذ زمن بعيد، إلى موضوع للمعرفة النظرية، فإن المصطلحات الثانية قد ظلت على تخوم المعرفة أو خارجها «إذ فرط فيها الباحثون العرب في حقل المعرفة الإنسانية ليحتموا في الغالب بما هو غربيٌ من نظريات وبراديغمات ومقاربات ومفاهيم».

وربما تكمن قيمة هذه الموسوعة في اهتمامها بالصنف الثاني من المصطلحات التي ظلت في الزوايا القصية على رغم فاعليتها النظرية والإجرائية، فسلطت الضوء عليها وجعلتها موضوعاً للتأمل والنظر والمعرفة النظرية. من هذه المصطلحات والمفاهيم: الانتفاضة، الفتوة، السلفية، البداوة... فغرض هذه الموسوعة يتمثل في الإحاطة بهذه المفاهيم والمصطلحات وإخراجها من الزوايا القصية من أجل إقحامها في البراديغمات النظرية، بعبارة أخرى يتمثل غرض هذه الموسوعة في دفع لغتنا إلى «النمذجة والتنظير» بعد طول اتكاء على ما تنجزه الثقافة العربية من مصطلحات ومفاهيم.

والمتأمل بهذه الموسوعة يلحظ أن كل فصل من فصولها هو عبارة عن «دراسة» معمقة لمصطلح من المصطلحات. وهذه الدراسة لا تكتفي بحد المصطلح وتطويق دلالته وإنما تعمد إلى الحفر في ذاكرته وفك معانيه المتراكبة، والبحث عن أصوله المعرفية وربما اللغوية.

ففي فصل «انتفاضة»، على سبيل المثال، يتأمل عبدالوهاب محمد المسيري حقل هذا المصطلح الدلالي ويعود إلى معانيه الحافة، مستقصياً أبعاده الحضارية والثقافية... ثم يعمد، في مرحلة ثانية، إلى البحث عن «نحو» هذه الظاهرة، ظاهرة الانتفاضة الفلسطينية، وإبراز «قواعدها».

وفي هذا السياق يلتفت إلى «الحجر» بصفته الأساس الذي تنهض عليها هذه الانتفاضة ويستعرض أهم «وظائفه» الدينية والثقافية فيتحدث عن حجر البيت وحجر السجيل وحجر رجم الشيطان والحجر الأسود. يقول عبدالوهاب محمد المسيري: «ونحن لو حللنا صفات الحجر... لوجدنا أن الحجر ليس مجرد سلاح وإنما هو استعارة معرفية ونموذج معرفي». ويختم هذا الفصل العميق بتأمل انعكاسات الانتفاضة على المستوطن الإسرائيلي فيقول: «إن أهم آثار الانتفاضة، بغض النظر عن نتائجها العملية والمباشرة، أنها أصابت الحلم الصهيوني في مقتلٍ، فبدلاً من الأحلام الوردية المتمركزة على البيت الفاخر الذي توجد على أطرافه العمالة العربية الرخيصة، توجد الآن كوابيس مظلمة يقف في وسطها طفل ممسك بحجر».

وفي فصل «سيميولوجيا اجتماعية» يتأمل الأستاذ محسن بوعزيزي الطرائق التي اعتمدها عدد من رجال الاجتماع لسحب السيميولوجيا، بما هي دراسة لحياة العلامات، إلى الحقل الاجتماعي منشئين بذلك «منطقة تداخل» بين علمين اثنين، الأول يهتم بتحليل البنية الاجتماعية أو التنظيم الاجتماعي، والثاني يتعلق بدراسة المبادئ العامة للأنساق الدلالية.

هذا «التداخل» دفع علم الاجتماع إلى الانتباه إلى ما في الظواهر الاجتماعية من أبعاد رمزية، وأنظمة دلالية، أي دفع علم الاجتماع إلى التنبه إلى ما في الحياة الاجتماعية من حياة للعلامات. ومن أهم الكتب التي اعتمدت هذه المقاربة السيميولوجية الاجتماعية كتاب عبد الوهاب بوحديبة «الجنسانية في الإسلام» الذي درس في بعض فصوله وظائف «الحمام» في المدينة الإسلامية.

ينطلق هذا الكاتب من اعتبار «الحمام» كوناً من العلامات والرموز... كل الأشياء التي ينطوي عليها محملة بالمعنى... في فضاء هذا المكان المغلق يتقاطع الديني والدنيوي فهو فضاء التماس بينهما، فضاء الجمع والمزاوجة، فضاء الالتقاء والمفارقة.

ثم إن الحمام صمم في شكل متاهة، حيث الغرف المتداخلة تلفها الظلمة الحالكة... الداخل إليه يرى الأشياء من وراء حجاب، الأجساد تتحول أمامه إلى «أطياف». لكن الحمام هو في المقام الأول، مجال للطهارة، فهو المدخل إلى المسجد أو لحظة التهيؤ للعبادة. يقول بوحديبة: «عند الخروج من الحمام وبعد أن يسترد المسلم طهره الشرعي ويتصالح مع عقيدته ومع المطلق يمكنه عندئذ أن يستعيد إيقاع ورعه».

أما المدة التي استغرقها إنجاز هذه الموسوعة فقد تجاوزت العقدين من الزمن ومع ذلك فقد تعمدت «الدار العربية للكتاب» نشر كل النصوص كما هي على رغم تقادم بعضها. وهذا التباعد أتاح لأجيال مختلفة من الخبراء العرب في علم الاجتماع من الالتقاء على صفحات هذا الكتاب فالموسوعة تبدأ مع جيل ادوارد سعيد وسمير أمين والطيب التيزيني والطاهر لبيب، هذا الجيل الذي أنتج عربياً «مثقفاً ملحمياً» وصولاً إلى أجيال اللحظة الراهنة التي تراود مفاهيم صعبة الترسخ علمياً كالإرهاب والحرب الاستباقية والعولمة».

محمد الغزي

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...