«قصة حديقة الحيوان» عرض مدروس وتحفة في الأداء

16-06-2010

«قصة حديقة الحيوان» عرض مدروس وتحفة في الأداء

يصعب أن يتخلص المرء من صوت ذلك العواء المديد، المستوحش والحزين، إثر مشاهدة «قصة حديقة الحيوان»، مسرحية الأميركي إدوارد ألبي (1928- ) التي قدمت أمس الأول بنسخة سورية من إخراج رأفت الزاقوت في دمشق. عواء شاب مستوحش، وصراخ رجل خمسيني يستذئب للدفاع عن حقه في مقعد في حديقة عامة، هما ربما خلاصة هذه المسرحية التي كتبت العام 1958، ويجد مشتغلوها أنها تعني دمشق 2010، ولذلك فقد تحولت إلى العامية السورية، بل إلى أسماء شخصيات وأمكنة محلية (الدراماتورجيا وائل قدور وعبد الله الكفري).
المسرحية تعرض لقاء عابراً بين اثنين في حديقة عامة؛ فادي (أداه المخرج نفسه) يدخل إلى الحديقة، ويتجه فوراً إلى مقعد لرجل يقرأ في كتاب (أداه زهير العمر). الحديث بينهما سرعان ما سيكشف عن ماضي فادي المؤلم، الذي جاء من عالم الجريمة والشذوذ والفقدان، هو الذي فقد أمه حتى قبل أن توجد جثة على مزبلة، حين امتهنت الدعارة كما يقول هو نفسه باستخفاف ومن غير ألم، ثم ما لبث أن فقد أباه مدهوساً في الطريق. وهو يسكن غرفة في طابق في ضواحي دمشق، وحيداً إلى هذا الحد في أقدم مدينة مأهولة في التاريخ كما يقول. أما الآخر، واسمه في النسخة السورية صلاح، فيسكن في قلب دمشق، مع ابنتيه وزوجته وعصافيره، ولعله يمثل نموذجاً تقليدياً للإنسان الصالح، المتكيف مع واقعه، والمطمئن إلى عصافيره وأشيائه.
وما ان يلتقي الرجلان حتى نجد المشهد مقلوباً؛ هذا الشاب الذي تمتلئ حياته بكل عناصر القلق والوحشة سيقدم أداء مسترخياً، يبدو كأنه قد تألم بحيث إن النصال تكسرت فوق النصال، فلم يعد يهمه شيء. لقد خبر كل شيء، وما يقوم به الآن ليس محاولة للتواصل، قدر ما هي محاولة لروي الحكاية لمرة واحدة وأخيرة، كما لو أنها وصية شاب ذاهب إلى الانتحار. يريد أن يقول كم أن حياتكم تشبه ما يجري في حديقة الحيوان، هنالك حيث كل حيوان معزول عن الآخر في قفصه، وحيث كل هؤلاء معزولون عن جمهور البشر العابرين المتفرجين.
لكن ليس هذا كل شيء، فالشاب يحاول أن يجري اختباراً أخيراً أيضاً، يريد أن يرينا كيف يتصرف هذا الرجل الخمسيني الأنيق ذو الكتاب والعصافير المطمئنة حين يحاول الفتى الهامشي أن يأخذ منه مقعده في الحديقة، هنا سيتحول كل تهذيب الرجل إلى شراسة ذئبية، يدافع عن مقعده كما لو أنه شرفه. الرجل المطمئن سيجد نفسه في ورطة حين يدفعه الشاب إلى قتاله حاملاً سكيناً. الشاب سيلقي بنفسه منتحراً فوق سكين الرجل، لكن من دون أن يقصد أن يورطه في جريمة قتل، فهو أثناء موته يحثه على مغادرة المكان، ولكن بعد أن صار من الواضح أن الرجل المطمئن لن يعود كذلك، لقد ألقي الجمر فجأة في أحضانه، ولعله لن يستطيع الفكاك منه. الشاب لا يتصرف على أنه يجري اختباراً ليعرف النتيجة، بل على أنه يعرف جيداً نتيجة الاختبار، كل ما هنالك أنه يريد أن يرينا كيف نتصرف، في حدائقنا المطمئنة، وكيف يتصرف الناس إزاء هذا المس بأشيائنا التافهة.
أداء الرجل الخمسيني يبدو مقلوباً هو الآخر، فهو المطمئن في حياته سيحمل وجهاً حائراً متردداً منذ اللحظة الأولى. ولا بد من القول هنا إن الممثل زهير العمر قدم تحفة في الأداء، لقد وضعتنا ملامح وجهه دائماًَ وفي اللحظة ذاتها على حافة الضحك والبكاء، ملامح مدروسة وغنية بردود الفعل، أداء زهير العمر قلما شهدنا مثله على خشباتنا.
تفاصيل العرض كانت عموماً مدروسة ومقتصدة، كما أداء الممثلين، فالخشبة فارغة إلا من مقعدين في مساحة تحيل إلى قفر أكثر منها إلى حديقة، وعلى الأرض أوراق شجر يابسة، ونتف من ورود ممزقة، بالإضافة إلى عمود ضوء رمادي. كذلك كان لافتاً بزق محمد عثمان الذي دخل في مرات قليلة بشكل حنون ومؤثر.
العرض هو تجربة لافتة للمخرج رأفت الزاقوت، الذي برز في تجارب عدة من بينها العرض الإيمائي «نشاز»، و«الجمعية الأدبية». إنه نموذج لشاب مجتهد يعمل من دون ضجيجِ فقاعات التجارب الإخراجية المستعجلة والمتبناة عن ظهر قلب من الرسميين وغير الرسميين.


راشد عيسى

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...