غسان الرفاعي: التظرف الدبلوماسي والبطر

14-06-2010

غسان الرفاعي: التظرف الدبلوماسي والبطر

ـ 1 ـ تسللت إلى بورصة الردح الإعلامي لفظتان ملتبستان لعلهما تلخصان أجواء التوتر والتراخي التي خيمت على المجتمع الدولي، بعد تفاقم الأزمة الاقتصادية التي عصفت باستقراره السياسي والاجتماعي والاقتصادي لفظة (التظرف الدبلوماسي)، التي بدأت تميز التوجه الجديد في التحرك الدولي، ولاسيما بعد أن استعاض ساكن البيت الأبيض الجديد عن الحروب الاستباقية، وانشطار العالم إلى الأخيار والأشرار، واستخدام المدفعية الثقيلة قبل المصافحة والحروب الصليبية على الإرهاب بسياسة اليد الممدودة والحوار الهادئ، ولفظة (العدمية) التي أعادت إلينا ما كان يتحدث عنه الفيلسوف الألماني (نيتشه) في كتابه عن الأخلاق، وهي الحركة القوية الهادفة إلى (استبخاس الحياة) على نحو ما ورد في هذا المقطع (لنتخيل إنساناً يقف أمام المرآة ويوجه إلى نفسه هذا الاعتراف المذهل: إنك تثير فيَّ القرف والشفقة، هذا الإنسان متعب، مرهق، محبط، وهو تجسيد للداء الجارح المزروع في الجيل الجديد...).

ـ 2 ـ ‏

يورد مؤرخ لا يخلو من خفة دم سمات الإنسان العدمي و(المعطوب) على النحو التالي: يبقى الإنسان الوديع المسالم الذي يكفي الناس خيره وشره محافظاً على اتزانه النفسي، وصحته العقلية، واستقراره الاجتماعي، ما لم يتعرض لهزة، ولم يصطدم بفاجعة، حتى إذا ما داهمته نازلة تخرجه عن طوره الطبيعي، يجد نفسه مرغماً على ارتكاب حماقة، تسبب له ولعائلته الدمار والخراب، وقد يقاوم متمسكاً برصيده من المحاكمة ولكنه سرعان ما يتداعى ويتسلل إليه العطب، وتظهر عليه أعراض التشقق الداخلي، والانهدام السلوكي، وينقلب إلى شخصية من شخصيات (دستوفيسكي)، وقد يقدم على اغتصاب نفسه قبل الإقدام على اغتصاب الآخرين. ويبدو أن المجتمع المعاصر يكتظ بهؤلاء (المعطوبين) الذين يتسلقون المناصب المسؤولة، ويتجولون في دهاليز السلطة، غير مبالين بالأذى الذي يخلّفونه وراءهم، ولا بالمتاعب التي قد يلحقونها بأصدقائهم والمقربين منهم. ‏

ـ 3 ـ ‏

استبدّ الفرح بالغرب بعد سقوط جدار برلين، فأسرع إلى دفن جثمان الشيوعية في حفرة مشتركة مع النازية، وأصبح يفتقر منذ ذلك الوقت إلى بوصلة فكرية ترشده إلى التمييز بين الخير والشر، وكان من نتيجته اختفاء هذين (الشريرين) انبعاث التيارات التخريبية التي انهالت على التراث الأخلاقي، ما جعلنا -كما يقول الأكاديمي دومرسون ـ نعيش (مرحلة انخفاض منسوب المياه الميثولوجية والأيديولوجية معاً). ‏

ولكن ما الذي حدث؟ لقد برزت (أيديولوجيا غير مرئية) وهي أصولية المال كمقياس وحيد للنجاح والارتقاء. لقد كان من الطبيعي بعد انهيار الأيديولوجيات أن يسقط الحقد الأعمى ضد المال، وأن تستعيد الرغبة في الربح مشروعيتها، وخاصة أن الحقد ضد المال لم يكن أكثر من قناع أو ستار لارتكاب فظاعات وحماقات وجرائم تجاوزت كل الحدود. كان نجوم المجتمعات الغربية هم أبطال الحروب وقادة الفتوحات الاستعمارية، فإذا بهم يستبدلون بين عشية وضحاها برجال الأعمال الذين يستعرضون بذخهم وفضائحهم العاطفية على صفحات المجلات (الراقية). ‏

هناك ثلاث انتكاسات بدلت الطبوغرافيا الاجتماعية في الغرب، أولاها: ضمور الأمل في النفوس، يقول (دومرسون): كان على جدار برلين أن ينتظر 20 عاماً قبل سقوطه، ولكن ما إن سقط حتى حلت كلمة مطالب مكان كلمة ثورة، واختفت العدالة لتأخذ مكانها الامتيازات. وثانيتها: الماركسية، إذ كانت جميع الآمال معقودة عليها لأنها كانت تنضح بالتفاؤل، وتعد بانجازات خارقة، ولكنها خيبت الآمال، وتركت الساحة فارغة، والثالثة: الحزن الانتحاري. ‏

كان شباب أعوام الـ 68 أصحاب رؤية واضحة، أو على الأقل يطمحون إلى بناء عالم جديد، أما شيوخ الـ 2007، 2008، 2009، 2010 فهم محالون على التقاعد مسبقاً وليست لديهم مطامح وإنما ذكريات، إنهم يثيرون الشفقة ويستدرون الرحمة، لأنهم محاصرون في شبكة التناقضات التي لا يمكن أن يخرجوا منها من دون خسائر فادحة، ويبدو أنهم عاجزون عن التحرر من ضعفهم، ولهذا يخشون التقدم إلى الأمام، وهم على قناعة أن أي تغيير مستقبلي هو نوع من الجنون الانتحاري. ‏

وفي مقابل هذه (الايديولوجيا غير المرئية) بدأ إمطار المشاهدين على شاشات التلفزيون الدولية بمناظر المجاعات والأوبئة والحروب الأهلية، والاقتتال الطائفي والإثني في العالم الثالث، وإذا بالكون يتحول إلى (فيديو كارثي) يثير الشفقة ويستدر العطف وفجأة بدأ الحديث عن (الواجب الإنساني) وعن ضرورة التدخل لإنقاذ الإنسانية من الكوارث، وفجأة بدأت الدبلوماسية الغربية تكثر الحديث عن الدول (غير الناضجة) التي يجب إدارة أمورها، وعن ضرورة (نشر الديمقراطية، ولو عن طريق البوارج الحربية والصواريخ والمدافع) ألم يكن (روجيس دوبريه) على حق حينما أعلن أن القرن الحادي والعشرين يشهد عودة (الامبريالية البيضاء) أو مايسمى (بعث الإنسان الأبيض). ‏

ـ 4 ـ ‏

يطرأ على احدنا في لحظات نادرة من (توهج الاعتدال)، وغلبة البراغماتية، أن يستجيب لدواعي حسن النية، ولاغراء (التعقل) وإذ ذاك يميل إلى تفسير الأحداث من دون توتر متراكم، وتعصب عفوي، بل يتوصل إلى الاعتراف، بكل طيبة وبراءة، بأن ما يجري هو من صنع أيدينا وأنه من التعسف إلقاء اللوم على (صناع المؤامرات) وأشرار (النظام العالمي الجديد) وأن الأمر لا يعدو أن يكون تهربا من المواجهة وتقاعسا عن تحمل المسؤولية، ثم نكتشف، ولو بعد فوات الأوان، أننا ضحية خدعة وفريسة فخ نصب لنا، بعناية وخبث نادرين. يصرخ احد المثقفين: (لنمتلك الجرأة، ولننظر إلى وجوهنا المملوءة بالبثور في المرآة، ولنتوقف عن تصنيع الأعداء في كل مكان! ولكن قد يتطلب منا المنطق السليم أن نستخدم المجهر للكشف عن الدمامة التي تحيط بنا والمبرقعة بالأصباغ المزركشة. ‏

ـ 5 ـ ‏

حينما استهواني حضور ندوة حول (البطر) كنت أتوقع أن أستمع إلى شهادات كتاب فرنسيين ‏

(متبرجزين) عن بطر المجتمعات الغربية واستهتارها بالموارد والثروات، في حين يحتضر العالم الثالث، وتنهب ثرواته وتسلح طوائفه لتخوض حروبا أهلية دامية ولكنني فوجئت بمباريات ثقافية تمتدح البطر و( الفخفخة) ، قديما وحديثاً، لتجعل منها أهم إنجازين حققتهما الحضارة، ولولاهما لما اختلف الإنسان عن الحيوان، ولما استطاع أن يتقدم. كان يتصدر الندوة الكاتب النابه (جيل ليوفتسكي) الذي أصدر كتاباً سماه (البطر الأبدي) وأثار زوبعة من النقد السياسي السلبي والايجابي. ‏

السؤال الفضيحة الذي استأثر بالمناقشات والحوارات: (كيف يجوز أن نولي البطر، ومظاهر البذخ الوقحة كل هذه الأهمية، في عصر تتلاحق فيه الكوارث والانهدامات؟ والجواب ـ الفضيحة هو ان الانسان ليس مصنوعا من النوازع والصبوات الاخلاقية فحسب، وانما هو مصنوع من الغثاثة والنزق والحماقة (كان (لابرويير) يقول: ( يخجل الانسان من المجاهرة بسعادته، حينما يشاهد مظاهر البؤس من حوله: هناك اناس يملكون كل شيء، وآخرون لايملكون شيئا، وهذا واقع يؤلمني!) وتبرع الفلاسفة بتفسيرين لتوضيح مقولة (لابرويير): تفسير اخلاقي يقوم على الزعم بأن البطر هو غطرسة انانية ورغبة في اذلال الآخرين، وإشعارهم بالدونية، وتفسير اجتماعي يقوم على ان البطر هو مظهر من مظاهر صراع الطبقات. غير أن نجم الندوة مؤلف كتاب (البطر الأبدي) يؤكد أن التفسيرين يتجاهلان نقطة مهمة وهي أن الإنسان من دون النزوع إلى البذخ والبطر يفقد إنسانيته ولا يتجاوز الحيوانية التي لا همّ لها إلا تأمين البقاء وتوفير الحاجات الأولية ويستشهد بقول لـ (شكسبير): (جردوا الانسان من الغثاثة وسيفقد إنسانيته إلى الأبد..) ويرى (جيل ليوفتسكي) أن عالم اليوم بعد أن سقطت اليوتوبيات السياسية والعلمية أصبح بحاجة إلى الأمل في حياة أفضل. يقول في الرد على منتقديه: نحن ننتظر يومياً الجمالات التي يفرزها الوجود اليومي المكفهر، ولم يعد البطر الجزء الملعون من وجودنا، ولكنه الجزء المقدس منه، إنه الحلم، إنه القدرة على التجاوز، إنه الطموح إلى التفوق، إنه السفر إلى المجهول.. ويذهب إلى أبعد من هذا، يزعم (أن البطر ليس سمة الحضارات المتقدمة التي ترفل بالتخمة والغنى، وإنما هو أيضاً من سمات الحضارات المتدنية التي تدعي بأنها إنما تسعى إلى الحصول على ماهو ضروري وأساسي فقط.. ‏

ـ 6 ـ ‏

تظرف دبلوماسي مخادع يوحي بالتعاون الدولي ولكنه يتستر على الهيمنة والاستلاب، وأيديولوجيا غير مرئية تعطي الصدارة للمال على حساب المبادئ والأخلاق، وبطر يمتدح لأنه الحلم والطموح إلى التفوق: هذه تحديات تواجه الإنسان المعاصر وقد تكون قد صدّرت إلى مجتمعاتنا بهدف استلابها ‏.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...