حنا مينه: مَنْ لم يكن ضليعاً بالاقتصاد فلن يكون ضليعاً بالسياسة أبداً

29-05-2010

حنا مينه: مَنْ لم يكن ضليعاً بالاقتصاد فلن يكون ضليعاً بالسياسة أبداً

تحية الى الاقتصاديين الشرفاء في بلدي سورية

كلما التأم جرح / جدّ بالتذكار جرح ‏

فتعلّم كيف تنسى / وتعلم كيف تمحو! ‏

أعترف.. في مدرسة النسيان لا أزال في الصف الأول، على أمل أن أترفّع، إذا ما كانت ثمة فسحة في العمر لابن السادسة والثمانين، الى الصف الثاني، قبل أن أرحل في عربة الموت الى هناك، حيث ينتظرني (الرِفْقَةُ الأبرار) وفي المقدم منهم الكبير الكبير، صديقي الوفي محمد الماغوط طيب الله ثراه. ‏

الأصدقاء، وحتى غير الأصدقاء إذا ما كانوا، وهم كائنون من غير شك. أقول: كان كونفوشيوس يعلِّم تلاميذه، فقال له أحدهم: يا معلم فلان عظيم، فسأله كونفوشيوس: (وما سر عظمته)؟ قال التلميذ (الجميع يحبونه) أجاب كونفوشيوس: (منافق!). ‏

غنّت فيروز، سفيرتنا الى النجوم، (في ناس يحبوننا، وفي ناس يكرهوننا) أجادت فيروز، لأن حباً بغير كره، ليس موجوداً، وكرهاً بغير حب، ليس موجوداً أيضاً، فالمعادلة، دون الشرطين، تظل ناقصة، وفي سفر التكوين، كما جاء في العهد القديم، أي التوراة، خلق الله سبحانه وتعالى آدم، فوجد المعادلة ناقصة، وكي تكمل، نَسَلَ ضلعاً من أضلاعه، ونفخ فيه فكانت حواء، وبذلك اكتملت المعادلة. ‏

لشد ما رغبت أن أقول كفى كلاماً، لكنني حكّاء، وهذه مهنتي، هذه طبيعتي، والطبع غلب التطبّع، فماذا أفعل!؟ لا بد إذاً من قول شيء، للقراء الأعزاء، وقيلتي تحيل إلى العنوان (من لم يكن ضليعاً بالاقتصاد، فلن يكون ضليعاً بالسياسة) ما دامت السياسة في القيادة، وهذا قانون لا يدحض، والأديب المضيّع سواء في بلدنا، أو في سائر البلاد العربية، يكتب ويكتب حتى يموت، وحتى يتأكدوا من موته، لأن هذا الأديب يحتاج إلى الرغيف، ولا مقارنة بينه وبين ماركيز، فهذا توقف عن الكتابة إذا ثبت أنه توقف، وهو ملياردير، بينما كتابنا المبدعون المشهورون فرض الدهر عليهم أن يكونوا جداراً مزعزعاً (وهل يسند البيتَ الجدارُ المزعزع!؟) هل نقارنهم بماركيز، كما تفضّل أحد كتبة القسم الثقافي في صحيفة تصدر في الغوطة التي أكلها الإسمنت!؟ إنني (أكذّب نفسي عن كل ما أرى) من فساد صارت له جذور وغصون، صالحة للحرق في المدافئ المترفة، في المنازل المترفة، التي نسمع بها من بعيد، ونقول في سرنا (أين الثريّا من الثرى؟) وأين نحن من الذين يطمحون إلى زيادة ثرواتهم، بينما يطمح الكتّاب المبدعون في الوطن العربي إلى عيش مستور، لا أكثر ولا أقل. ‏

(غيفارا مات يا أنتيكات، غيفارا مات يا دِفْيانين ومشعّلين الدفّايات، غيفارا مات، غيفارا مات!) ولديّ، حول غيفارا وموته، ملاحظة مستمدة من نضالي الطويل، سراً وعلناً، ضد الاستعمار الفرنسي اولاً، وضد الاقطاع ثانياً، وضد الذين يتجاهلون خبرة وذكاء هؤلاء الأعداء ثالثاً. ‏

إن الذي لا يعرف الاقتصاد، لايعرف السياسة، وهذه، في ثابت مدلولها، تأتي في المقدمة دائماً، والشهيد غيفارا، الذي كان رفيق كاسترو، كان عليه أن يوقن أن تحرير كوبا كان استثناءً لا يقاس عليه، وأن كولومبيا لم يكن يحكمها باتستا، جلاد الشعب الكوبي، وأن يحذر من المغامرة، هو ورفاقه الستة عشر، في محاولة إشعال ثورة في كولومبيا، التي أرضها غير ناضجة للثورة بعد، والأرض التي ليس فيها مهاد ثورة، لا يمكن، بل من المستحيل، أن تقوم فيها ثورة، ومن المؤسف جداً، أن يذهب غيفارا ورفاقه ضحية عدم الإلمام بهذه الحقيقة إلماماً كافياً. ‏

أعود إلى موضوع فَن فهم الاقتصاد، وتالياً السياسة، وتبادل الأدوار بينهما، فالاقتصاد فن فهم السياسة، لكن السياسة في القيادة، ولا يمكن للسياسي أن يحقق هدفه، بأي شكل من الأشكال، إذا لم يستند إلى الاقتصاد بدءاً، ذلك أن الاقتصاد هو الأرض الصلبة التي لا بد للسياسي أن يضع رجله عليها قائلاً: (من تحت أخمصك الحشر). ‏

لقد مضى الزمن الذي كان الذهب وحده هو القوة الاقتصادية، وهو الاحتياطي اللازم توافره في خزانة البنك المركزي، كي نثبت أننا أقوياء مالياً، وحل مكان الذهب الإنتاج، فقوة ما ننتج هي القوة الأساسية، وخاسر البلد الذي يأكل مما لا ينتج، ويكون مضطراً إلى الاعتماد على الاستيراد دون التصدير، ما يؤدي إلى الخلل في ميزانه التجاري، ويكبر هذا الخلل حتى يشكل خطراً، إذا لم يجر تدارك الأمر في الوقت اللازم. ‏

من ناحية أُخرى، هناك معيار آخر، فالقوة الداخلية هي التي تجعل أي بلد قوياً خارجياً، والقوة الداخلية ترتكز على جماهيرية هذا البلد، ومدى التفاف الشعب حوله، حتى يكون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وهذا الالتفاف، وتالياً الارتصاص، يقاس بمدى الرفاهية، أو الحياة المريحة للشعب، التي قوامها توافر الرغيف والأشياء الضرورية لا الكمالية، لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، وليس بنافع، بل هو ضار جداً، اعتماد سياسة العصا والجزرة، فذبابية طبق العسل معروفة، والمنافقون، وفي أيامنا هذه خصوصاً، كثيرون، وهم الذباب الذي ينط على طبق العسل، أي إنهم يسعون إلى الاستفادة من الحكم، دون دعم هذا الحكم، في أي بلد، وفي الجهات الأربع من عالمنا الراهن، وما الأزمة المالية العالمية، إلا بعض نتائج الفساد المستشري، الذي علينا أن نكون جادين في محاربته، أو التقليل، شيئاً فشيئاً، من أثره وخطره على مستقبلنا جميعاً. ‏

وما أحسب أنني قلت جديداً، ولكن ذكّر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وذكّر بأن الاقتصاد، كان وسيبقى، هو الآلية المعتمدة، لا في فهم السياسة وحدها، بل في التبحّر الضروري، النافع جداً، للمعرفة بشكل عام، ولمن يتولون إدارة أمور شعوبهم بشكل خاص. ‏

إن موضوع الاقتصاد ليس فيه جنف عن المواقف الإنسانية، ولا عن الاهتمام الكبير بالشأن الإنساني، لكنه يفيد، إلى الدرجة القصوى، في فهم الكيفية المثلى لخدمة الإنسان، لا بالقول وحده، بل بالفعل معه، فنحن نعيش هذه الأيام ثورة المعلوماتية، بكل مندرجاتها، وألف باء الاقتصاد، في صدق فهمه وتطبيقه، ينأى بنا عن إدارة قفانا للبشرية المعذبة، وعن تجاهل أوجاعها، وسد الأذنين عن أنينها المتصاعد في كل أنحاء المعمورة، حيث يجري، في كل يوم، تسريح العمال بعشرات الآلاف، نتيجة للإفلاسات من جهة، والتقدم العلمي من جهة أخرى.

حنا مينه

المصدر: تشرين ‏


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...