غسان الرفاعي: الهزيمة ليست قدراً وطلال سلمان!

03-05-2010

غسان الرفاعي: الهزيمة ليست قدراً وطلال سلمان!

ـ 1 ـ وقف مهرج افريقي - أميركي يدعى برت وليامز على المسرح ذات يوم وقال ساخراً: (ليس مخجلاً أن تكون من السود، ولكن اللون الأسود في الولايات المتحدة عاهة معيبة!) ويقف مهرجون كثر، في أوروبا، ويقولون بسخرية أيضاً: (ليس مخجلاً أن تكون مسلماً، لكن الإسلام عاهة معيبة في أوروبا) لم يعد الأوروبيون، بعد الحملات على المآذن، والحجاب، وتعدد الزوجات، يتحدثون عن هذا المسلم أو ذاك بصفته الشخصية، وإنما عن المسلمين بالجمع، وكأنهم ينحدرون من منشأ واحد، وهؤلاء المسلمون، من حيث شاؤوا أم أبوا، يتبنون شعارات إسلامية متطرفة، حتى ولو جاهروا برفضها، ويتكتمون على معتقدات عنصرية حتى ولو لم تخطر لهم على بال، ويؤيدون الأعمال الإرهابية ولو أعلنوا رفضهم لها، ويدافعون عن حكومات استبدادية تحتقر الإنسان ، حتى ولو فروا منها وفضلوا اللجوء السياسي إلى بلاد أخرى، وهم متحمسون للقاعدة ولطالبان، وللأحزمة الناسفة، والسيارات المفخخة، وللجنون السياسي. وتتصاعد الكراهية لهم في العواصم الغربية، ولرموزهم الفاقعة، مثل المآذن، والبرقع، واللحم الحلال، وتعدد الزوجات، لا من منطلق العنصرية - كما يزعمون - وإنما من منطلق الدفاع عن الديمقراطية والعلمانية، وفلسفة الأنوار، والتعددية السياسية، وخاصة الدفاع عن الحداثة والمعاصرة.

ـ 2 ـ ‏

يتوق الواحد منا، وهو يرشق بالإهانات، أن يخفي وجهه عن الناس، وأن ينتحي جانباً، ليفرج عن كربه، في صمت وقنوط، يبدو أننا اكتسبنا (مناعة) وما عاد يؤثر فينا ما نتلقاه من صفعات ولكمات، تنهال علينا من كل حدب وصوب. لقد حولتنا النكبات إلى (كائنات بيولوجية) لا همّ لها إلا توفير الحاجات الأولية في استكانة ورعب، وتخلينا عن ثقالتنا الثقافية والاجتماعية، لسان حالنا يقول: (ومن بعدي الطوفان!) الحاكم عندنا مشغول بحماية عرشه، والمواطن مشغول بتأجيل نعشه، وبين الهاجسين تبتلعنا الأمواج، فلماذا الشكوى واللطم، بعد أن أخرجنا من التاريخ، والتحضير لإخراجنا من الجغرافيا على قدم وساق. ‏

ـ 3 ـ ‏

تلقيت، منذ مايقارب الـ15 عاماً كتاباً من الزميل طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة (السفير) اللبنانية، عنوانه: (الهزيمة ليست قدراً) وقد جاء في كلمة الإهداء اللطيفة: (لعلني أجد في ركام المقالات المنشورة في الكتاب والتي تدعو إلى التغيير ما يساعد على تفريج الكربة)، وهو يصر على أن الهزيمة ليست قدراً، وأنه لا بد من اقتحام التاريخ ودخوله، والانتظام في دورته الجديدة، وهذا لن يكون غداً، أو بعد غد، وقد يتطلب عمراً ثانياً وأجيالاً جديدة، ولكن لا طريق غيره، ويرى ان الديمقراطية هي المدخل إلى الحل، وهي المخرج من الهزيمة وعصرها، الديمقراطية بما هي اعتراف بالإنسان وحقوقه، وبما هي بناء للمؤسسات، وبما هي الإطار الصحيح للنقد، الديمقراطية بما هي حق المعرفة، وحق الاختلاف مع الحاكم، وأول المعرفة هي معرفة الذات ومعرفة العدو. ‏

ـ 4 ـ ‏

أجد متعة خاصة في إعادة قراءة كتاب صديق الدرب والعمر طلال (الهزيمة ليست قدراً) وفي قناعتي أنه لم يفقد طزاجته ولا معاصرته، على الرغم من ان طلال يعترف في مقدمة الكتاب انه لا يملك من أدوات المعرفة غير الأسئلة، يكتب: (في صدر كل منا، وعلى سن قلمه، طوفان من الاسئلة النابعة من مسلسل الانهيارات التي تهز الكون، والتي تبدل تاريخه، وتعدل أرضيته، كما تنسف هويتنا وانتماءاتنا وعلاقاتنا السياسية جذرياً...) ولكن هذه الأسئلة تطرح في عالم تتهاوى وتتحطم فيه الثوابت والعقائد، والأيديولوجيات، لتخلي المسرح لبراغماتية الأمريكي البشع الذي يرتدي الآن قناع المحرر، بعد أن تراجعت الوطنيات مدحورة أمام المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي، مفسحة المجال لإجراء تغيير في خريطة الوطن العربي يتناغم مع الخيال الصهيوني الداعر... ‏

ـ 5 ـ ‏

أنا أعرف (طلال) في وجهيه، وجه كربلاء ووجه زوربا، ولا أخفي انبهاري بهما معاً، لثقتي أنهما شطرا شخصية واحدة، تأسرك حتى العشق، وتستفزك حتى المبارزة، بحيث تحار، حين تلتقي نظراتك معه، أنت مدعو إلى البكاء، أو إلى الدبكة والرقص، وفي الحالتين أنت محكوم عليك بالخروج من اتزانك، والانزلاق إلى التفريط والهدر. ‏

انه لا يستخدم القلم، بل الازميل، ولا يكتب بل يحفر، ولو كان رساماً لقطع اذنه - كما فعل فان غوك - غضباً أو سأماً أو فرحاً، ولكنه كاتب، وهو لا يتوقف عن قطع أصابعه، مرة بعد الأخرى كلما ملأ عمودي (معاً على الطريق) في (السفير) إنه يصدر دوماً عن رأي ساخن أو متطرف لأنه ـ كما يقول - يكتب (من قلب الجرح) ولا يصف حالة (رياضي يتسلق قمة جبل، هواية أو حباً بالاكتشاف). ‏

ـ 6 ـ ‏

ينتقل (طلال) من (سلام الحكام العرب) إلى (الهزيمة ليست قدراً) لينتهي إلى هذه النتيجة المأساوية المفجعة: (إن حكام العرب يعطون ويعطون، ويتنازلون ويتنازلون، وقد أمدهم غياب الشارع أو الرأي العام أو الشعب من دائرة التأثير، بقوة خارقة، فهم لم يعودوا يخافون من رعاياهم الذين دجنوا وروضوا وقمعوا بالرصاص، والاعتقالات وغسل الدماغ والرشوة)، وبالتالي هم أكثر اطمئناناً إلى أنه لا بديل منهم، والعرش أبقى من الأرض، والعرش يحتاج إلى السلام، إذاً فلا بأس في صفقة قوامها السلام مقابل العرش، أما الأرض، فأرض الله واسعة، ولتبدل الرعية ما شاء لها المزاج من الأحباب والأوطان - يا سلام (ص202 ـ 203). ‏

يواجه (طلال)، وهو الذي يسعى إلى أن يخلق (منبراً لمن لا منبر لهم) إرهاقات وهموماً وإشكاليات تختزل مأساة المثقف العربي المعاصر الذي يحاول أن يحافظ على نظافته ونقاوته الوطنية واستقلاليته، في عالم عربي، منهار، منقسم، ويساعد على حفر مقابر جماعية لمواطنيه. وكان عليه أن يختار، بشكل مستمر، بين أن يعلن الهزيمة، للاحتفاظ بكامل مخزونه الوطني النزيه، وبين أن يستمر، مع ما يتطلبه هذا الاستمرار من تنازلات، ومناورات، وكرّ وفرّ ، وقد فضل الاستمرار لأنه شاء أن يكون (صوت من لا صوت لهم...). ‏

ـ 7 ـ ‏

يكتب في نهاية كتابه: (اليوم ساقط، وماذا عن الغد؟ هل يبنى الغد برصد وتعداد الأخطاء والتشهير بحكام الماضي والحاضر والتبرؤ من مجمل التجربة، بكل ما أعطته من انتصارات وخيبات؟ ليس حلاً أن نهرب إلى الأمام، وأن نتنصل مما كان! الهزيمة ليست قدراً، ولم يكن كل ما عشناه مجرد مسلسل من الهزائم المتوالية، ومن الظلم أن نطمس الصفحات المجيدة والأيام المشرقة التي عاشتها الأمة في مختلف أقطارها قبل 5 حزيران. ‏

ولكن هذا الأمل الذي يدعو إليه (طلال) يفتقر إلى المصداقية لأنه مستمد من تجربة الماضي، وهي تجربة مصابة بفقر الدم، واليباس والتصلب، ولأنها مرتهنة بمستقبل غامض لا يريح ولا يطمئن. على أي حال، قد يكون هذا الأمل هو الذي يبقيه محتفظاً بشيء من شبابه وطزاجته، ولكن الأجيال التي رافقته ترهلت، ورهانها على المستقبل ليس بمثل تفاؤله، ولا بمقاس تطلعاته. ‏

أكاد أزعم أن هناك أفخاخاً منصوبة لنا في كل مكان، وأن حسن النية قد لا يكون متوفراً عند من يدعون صداقتنا والإعجاب بنا. ولكن الحكمة ليست في الشكوى من وجود هذه الأفخاخ، ولا في الكشف عن خبث من يضعونها وإنما في تجنبها، وعدم الوقوع فيها، وفي تحويل الأفخاخ إلى منابر حقيقية، تنقل إلى الآخرين ما نملكه من رصيد رصين ودسم. ‏

ـ 8 ـ ‏

لقد تجاوز التأزم النفسي الذي يعيشه الإنسان العربي - كما يعرف طلال جيداً - مرحلة الإحراج ليدخل مرحلة الانفصام، كان ينوس بين واقع يرفضه، ولكنه مرغم على أن يتعايش معه، وبين حلم يتعلق به، ولكنه عاجز عن تحقيقه، فأضحى اليوم يتأرجح بين الشعور بالإحباط، بسبب تشبثه بغيتو لا منافذ له وبين الشعور بالتحدي بسبب رغبته في إخضاع ظروفه إلى إرادته. كان (اندريه مالرو)، الكاتب الفرنسي الذي انتقل من شاطئ الثورة إلى بر المحافظة، يقول: (قد ننجح في ان نريد ما نكون، ولكننا نفشل في أن نكون ما نريد!) ولعل الإنسان العربي قد جسد عكس ما قاله اندريه مالرو: لقد نجح في أن يكون ما يريد على مستوى التنظير والنبوءة، ولكنه فشل في أن يريد مايكون على مستوى المعايشة مع الواقع، المأساة ليست في أن الإنسان العربي مثقل بأريج الماضي، الذي قد يكون تغلغل في نسجه وأليافه، وإنما في كونه قد وجد نفسه على شفا هاوية، وبين الماضي والحاضر، وليس هناك من يسعى إلى انتشاله. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...