هل من روابط خفيّة بين الرواية والجوع؟

21-01-2011

هل من روابط خفيّة بين الرواية والجوع؟

لا تنأى الرواية بنفسها عن الخوض في أيّ موضوع من الموضوعات، مهما بلغ الموضوع من الحساسيّة، ومهما أوجب من احتراص وحذر، ذلك لأنّ الروائيّ يتهم بالبحث عن المؤثّر وتداعياته المخلّفة، عن القاهر وتشعّباته وانتكاساته ونكباته، عن المختلف ليبدي اختلافه وتميّزه، لكنّ ما يلفت النظر أنّ هناك عدداً من الروائيّين تنبّهوا إلى حالة تبدو من البساطة أنّها قد لا تثير الانتباه والاهتمام، أو كأنّها تبدو مبتذلة لكثرة الحديث اليوميّ فيها وعنها، وهذه الحالة هي حالة الجوع. والجوع لا يكتفي بالإشارة إلى الجوع الجسديّ إلى الطعام فقط، بل هو معمّم، يخرج عن إطار الحالة، ليغدو ظاهرة مثيرة للجدل، ولا سيّما بعد تفشّيه في كثير من المجتمعات، وتحوّله إلى وباء أودى ويودي بالكثيرين، سواء عبر تركهم على شفا الموت جوعاً، أو دفعهم إلى ارتكاب الموبقات تحت سطوة جوعهم وجنونه القاهر القاتل. وقد عالج موضوع الجوع، وتطرّق إليه عدد من الروائيّين العالميّين، منهم ثلاثة من النوبليّين: النرويجيّ كنوت هامسون «1859 – 1952» الحائز جائزة نوبل للآداب سنة 1920م، في روايته «الجوع»، والفرنسيّ جان ماري لوكلوزيو المولود في مدينة نيس الفرنسيّة 1940، الحاصل عام 2008م على جائزة نوبل للآداب عن روايته «لازمة الجوع»، ثمّ الروائيّة الألمانيّة هيرتا موللر، الحائزة جائزة نوبل للآداب 2009م، المولودة في رومانيا، نتشكيدروف 1953، في روايتها «أرجوحة النفس» التي تخصّصها للحديث عن الجوع في المعتقل وحالات الجوع الكثيرة. كما أنّ هناك روائيّة شابّة تقارب الجوع في أكثر من عمل لها، وهي الكاتبة البلجيكيّة آميلي نوثومب، 1967، وبخاصّة في رواية «بيوغرافيا الجوع». أمّا عربيّاً، فقد قارب «قضيّة» الجوع بعض الروائيّين، سواء أكان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ويأتي في هذا الوارد الروائيّ المصريّ محمّد البساطيّ 1937 في روايته «جوع» التي وصلت عام 2009 إلى اللائحة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وكانت تستحقّها بامتياز.
ـ جوعُ النوبليّين:
لا يتخلّى كنوت هامسون عن مواصفات شخصيّته الروائيّة المختارة، وإن كان يغيّر في مواصفات الأمكنة، فأحداث «الجوع» كانت تجري في مدينة كريستيانا، تلك المدينة التي يصفها الراوي الصحافيّ طانجن، بالعجيبة التي لا يغادرها أحد قبل أن تشِمه وتترك عليه آثارها، أمّا بالنسبة إليه فتترك عليه آثارها المدمّرة، يبقى في بؤس ويأس، يعاني الجوع بأشرس حالاته وأقساها وحشيّة، والتشرد بمختلف صنوفه، ولا يفلح الجوع القاتل بتقسية قلبه، أو تحويله إلى مجرمٍ حاقدٍ، بل تراه يُقْدِم على مساعدة الآخرين، قدر استطاعته، يحوّله جوعه إلى كائن إيثاريّ، لكنّه لا يصمد في وجه استبداد الجوع المزمن في مدينة كريستينا، فيرحل عنها بعد معاناته المرارات القاهرة فيها، يغادرها من دون تحديد وجهة معيّنة، كأنّه بذلك يهرب من جوعه إلى المجهول، الذي عساه ينطوي على حدّ أدنى ممّا يسدّ رمقه.. في حين أنّه في «بان» لا يلتزم بمكان بعينه، وإن كان قد توقّف كثيراً عند نورلاند، بل ينتقل من مكان إلى آخر، متوافقاً ومترافقاً مع طباع شخصيّة غلان العاشقة للترحال والسفر، الهارب من جوعه إلى الحبّ إلى تجويع الآخر واستعباده. كما يعيد هامسن متشرّده في «الجوع» إلى الظهور بشخصيّة الضابط غلان في رواية «بان»، الذي يرتضي الوحدة والعزلة، يعيش في حالة سفر دائمة، ينتقل من منطقة إلى أخرى، يصحبه كلبه الوفيّ، تتبعه رائحة الأنثى التي تتسبّب في نهايته الفجائعيّة.
كما لا يني الروائيّ الفرنسيّ جان ماري لوكلوزيو يتجوّل في أكثر المناطق تعتيماً وضبابيّة، ولا سيّما أفريقيا التي ظلّت قبلته في أكثر من عمل له، وقد اعتمد في رائعته «لازمة الجوع» على شخصيّة جدّته، ليروي بعضاً من حالات الجوع الغرائبيّة القاتلة، اعتنى فيها بطرح موضوعات إنسانيّة عامّة، طرح المعاناة والجوع بمختلف صنوفه، بدءاً من الجوع المادّيّ وانتهاء بالجوع المعرفيّ والثقافيّ.
تروي هيرتا موللر في روايتها «أرجوحة النفس» قصّة بطلها ليوبولد أوبيرغ في معتقل سوفياتيّ، حيث يكون إحدى ضحايا دخول الجيش السوفياتي إلى رومانيا في صيف 1944، إذ يعتقل ليوبولد أوبيرغ ضمن حشدٍ من القرية نفسها، يرحّل إلى منطقة نائية في الاتّحاد السوفياتيّ، ليعمل في معسكرٍ مغلقٍ، يعاني فيه أقسى أنواع الجوع والظلم والتعذيب. تركّز موللر في روايتها على الجوع بمختلف تصنيفاته وتفرّعاته، تصوّر وحشيّته حين يستبدّ بالإنسان، تصوّر كيف أنّه يخرّب أنّى يتسلّل، وكيف أنّه يخلّف الإنسان أنقاض إنسان، حين يجد المرء نفسه مضطرّاً إلى اللجوء إلى الأساليب الملتوية كلّها، من سرقة ومبادلة وتحايل وغيرها، كي يتمكّن من تأمين لقمةٍ تقيه الموت جوعاً. تلطّف موللر من كارثيّة الجوع، حين تتحدّث عن ملاك الجوع، كأنّها باختيار ملاك للجوع، تُضفي على الجوع مسحة طيّبة خيّرة، لكنّها في الصميم، تظهر شيطانيّة ذاك الملاك الذي لا يعرف الرحمة. تخصّص أكثر من فصل للحديث عن الجوع بإطلاق، كيف أنّ الجوع يغدو وحشاً متغوّلاً يفترس ضحاياه، ولا يأبه لاستغاثاتهم، لأنّه يكون مضطرّاً إلى إرواء جوعه النهم الذي يستحيل أن يرتوي. يتنوّع ويتشظّى، لا يبقى حكراً على الجسديّ فقط، تغدو له تفرّعات كثيرة، يتماهى مع الحنين إلى الوطن، يتماهى مع الذكرى والشوق، ينفرد بروائحه الخاصّة، تغدو له كينونته المستقلّة، يُملي تعاليمه على الجائعين، أسهلها أنّه لا يجوز التحدّث مع جائع، لأنّه سيصغي إليك بجوعه المجنون، لا بعقله.. يكون الجوع موجودا أبداً، ولأنّه موجود أبداً فإنّه يأتي حين يريد وكيفما يريد. تقول إنّ قانون السببيّة من صنع ملاك الجوع. فهو يأتي بقوّة عندما يأتي. لا يجوز للإنسان أن يتكلّم عن الجوع حين يكون هذا الإنسان جائعاً. فالجوع ليس هيكل سرير، وإلاّ لكانت له أبعاد. الجوع ليس شيئاً مادّيّاً. إنّه شيء موضوعيّ.
ـ جوعٌ معولَم:
تقدّم البلجيكيّة آميلي نوثومب في روايتها «بيوغرافيا الجوع» سيراً وذواكر متعدّدة، تثبت على غلاف روايتها الخلفيّ: «الجوع هو أنا». وهذا تعريف من بين تعاريف كثيرة تعرّف بها الجوع في روايتها، قد يختصر سيرتها، وسيرة عدد ممّن التقت بهم وخلّفوا لديها انطباعات متباينة، وهي بذلك ترتقي بنفسها إلى مرتبة الجوع، كونه، يسمو بها إلى مرتبة الألوهة، كما تكرّر في أكثر من مكان في روايتها.. وكأنّها تغدو بذلك إلهة، أو كأنّ الإله هو الجوع، باعتباره القوّة الضاغطة على البشر، يسيّرهم على هواه، ورغماً عنهم، ذلك لأنّهم عندما يجوعون يكونون مستعدّين لارتكاب كلّ شيء، واقتراف كلّ الحماقات، وهو بذلك يكون المتحكّم الفعليّ.. تقسّم نوثومب المدن التي زارتها بحسب البطون الجائعة فيها، فتشكّل الصين عندها زعيمة البطون الخاوية، حيث حرّض الجوع عندها على الإبداع المستمرّ والبحث عن سبل جديدة في كلّ مرّة لاتّقائه، حتّى باتت مضرباً للمثل في ذلك، حتّى غدا الجوع هويّتها الأسمى. والدافع الأعظم هو الجوع المثوّر، وليس الجوع المُحبط القاتل. ثمّ تضيف الكاتبة أنّ ما يجذب الغزاة إلى مناطق بعينها ليس ثروة البلدان في حدّ ذاتها، بل الجهد الذي بذله الناس فيها: أي نتاج الجوع. أي انّه من المحتمَل أن يكون الجوع فضيلة، وقد يكون عبئاً أيضاً، كأيّ شيء يحمل في ذاته النقيضين، الخير كلّه والشرّ كلّه، أو ما وراءهما، وهي في ذلك تذكّر أكثر من مرّة بنيتشه في كتابه «ما وراء الخير والشر»، وفي بعض مواقفه من أمور بعينها، خاصّة حول حديثه عن الإنسان الخارق فيما هي تختار الحديث عن الجوع الخارق، كأنّ الجوع الخارق يفضي بالضرورة إلى خلق الإنسان الخارق الذي يتفوّق على الطبيعة التي تجوّعه، ويكسب الرهان والأحقّيّة بالبقاء والخلود.
ـ جوعٌ معرّب:
أمّا محمّد البساطيّ فقد عالج الجوع عربيّاً، قدّمه بصيغة معرّبة، لم يسعَ إلى التماثل مع لوكلوزيو أو هامسن أو موللر أو نوثومب، بل روى سيرة الجوع القاهرة في الريف المصريّ الذي يصلح نموذجاً لأيّة قرية أو مدينة عربيّة، قدّم الجوع مرفوقاً مع الترف المرَضيّ، حيث يكون الجوع المعادلَ المكافئ للتخمة، تقابل الشخصيّات الجائعة، والعيون التائهة بنماذج متخمة، يبدي جوعها مضاعفَاً من خلال سرده لبعض المواقف وتصويره لبعض المشاهد، لا يبقى الجائع معه ذاك المعاني من قهر الجوع، بل ينتقل بصيغة مستحدثة إلى ذلك الباحث عن الإفراط. يقلب في بعض الأحيان تركيبة الجوع. لكنّه يدينه ويثور عليه ويسعى إلى تأريضه وإفنائه عبر تجسيده وإظهار تأثيراته.. ويعلن البساطي أنّ «قضية الجوع» لم تعد تقتصر اليوم على الدول الفقيرة مثل مصر، بل تطال باطراد الدول «الغنية» أيضًا التي يتزايد عدد سكانها «الذين يعانون من الفقر أو البطالة أو الأجر غير الكافي».
بين أن يكون الجوع فضيلة أو رذيلة، دافعاً أو نتيجة، ملاكاً أو شيطاناً، فإنّه الجوع فخّاً قاتلاً بكلّ المعاني، ولا شكّ بأنّ أكثر الذين يفهمون الجوع، يتمرّدون عليه بالكتابة، يستعرضونه، يُظهرونه، يعرّونه، يحاولون تجويعه، عساهم يساهمون في التغلّب عليه. وبرغم أنّ ما يجري من وقائع لا يبشّر بمستقبل منظور ينتفي فيه الجوع، بل على العكس من ذلك، ينذر بكارثة يكون الجوع المتعاظم بطلها الأوحد دون منازع، فإنّ الرواية تساهم بنصيبها في عرض الجوع بغية تبديده والتخفيف منه..

هيثم حسين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...