نهر الحياة: نجيب محفوظ والإبداع القصصي

07-04-2009

نهر الحياة: نجيب محفوظ والإبداع القصصي

ينشغل الإبداع القصصي لنجيب محفوظ بالحياة، وتتجسد فيه صورها المتعددة، كما تتدرج فيه مستويات ‏انشغاله بها منذ بدايات إبداعه.

تبعا للمرحلة الزمنية / الحالة السائدة في إبداعه بصورة عامة، بحيث دائما ‏توجد الحياة ومترادفاتها ومضاداتها؛ فمن الحياة ينبثق الموت، ومن الموت تنبثق الحياة، وهكذا فالمبدع / ‏الإنسان في رحلة بحث دائمة فيما حوله وفينجيب محفوظ الآخرين، انطلاقا من ذاته، في وجه الوطن، وأديم أرضه ‏وثراه.

وفي أغواره، لا تكاد تنتهي إحدى مراحلها حتى تبدأ مرحلة أخرى أشد أو أخف وطأة؛ لتتواتر فيها ‏سبل الإبداع ووسائله لتشكل هذا النسيج المتواشج المتنامي لمظاهر الحياة؛ فتمثل شهادته نحو الذات / ‏الإنسان / الأرض / الوطن، ميثاقا لا تقوض أركان علاقته بالواقع أي مؤثرات خارجية مسجلة حتى ولو ‏كانت تاريخا يؤرخه مؤرخ؛ فالمبدع الصادق هو الأقرب لرصد علاقة مجتمعه بتاريخه في حقبته الزمنية / ‏حياته التي يعيشها ويبدع من خلالها.‏

يقول نجيب محفوظ في أحد حواراته عن علاقته بالقصة القصيرة، وسط طوفان أعماله الروائية الضخمة ‏وتحولاتها المدهشة، إبان إتمامه لرواية "المرايا" "1971 /1972"، مع تتابع مجموعاته القصصية: ‏‏"صدقني.. أنني أبدأ القصة القصيرة الآن دون أن أعرف كيف تنتهي.. لكنني لا أستطيع أن أغلق على ‏نفسي الباب عاما كاملا كي أكتب رواية، منصرفا عما يحدث في الواقع وفي نفسي.. الانفعال اليومي عذابي ‏وعزائي.. لهذا لا أستطيع تثبيت ما في الخارج وإطالة النظر إليه" "1".‏

من هذا المنطلق، منطلق القصة كمعبر آن عن العذاب والعزاء على حد السواء، لفعاليات الحياة والانفعال ‏بمنغصاتها، يبدو الإبداع القصصي لنجيب محفوظ، رافدا هاما من روافد إبداعه لا يقل بأي حال من الأحوال ‏عن أعماله الروائية الخالدة التي حفرت للأدب العربي مسارا، وأسست له علامات بارزة في ذاكرة الأدب ‏العالمي وحاضره.

فنجيب محفوظ الذي قدم، أول ما قدم في عطائه الأدبي غير المحدود، روايته التاريخية ‏‏"مصر القديمة" "1932"، والتي نال عنها جائزة "قوت القلوب الدمرداشية"، كتب القصة القصيرة ولازمها ‏فترة طويلة متصلة امتدت من عام 1932 إلى عام 1946، أنجز فيها مجموعته القصصية البكر "همس ‏الجنون"، والتي بلغ عدد طبعاتها عشر طبعات حتى العام 1979! لتشكل عطاء قصصيا حقيقيا امتدت ‏معاناته طيلة الإثني عشر عاما مع القصة القصيرة، عرفه فيها الواقع الأدبي قاصا مجيدا، على صفحات ‏مجلات "المجلة الجديدة"، و"الرواية"، و"الرسالة" و"الساعة""2".

هذا التأصيل المكافح، الذي انتقل به ومنه، مبدعنا الكبير إلى مرحلة هامة ومفصلية من مراحل مسيرة ‏الرواية العربية حيث انتقل بها من نقلات واسعة غير مسبوقة، بعد مرحلته التاريخية "رادوبيس ـ كفاح ‏طيبة ـ عبث الأقدار" مرورا بالمرحلة الواقعية الاجتماعية، وصولا إلى روايته المغايرة "اللص والكلاب" ‏وما تمثله من نقلة فنية فلسفية هائلة في أعماله الروائية، والرواية العربية بصفة عامة؛ لتتجاور بعد ذلك ‏أعماله القصصية مع تلك الروائية، التي قال عنها نجيب محفوظ نفسه ضمنيا كما أسلفنا، أنها ليست كافية ‏لإدرار هذا الزخم النفسي والوجداني مع سرعة الأحداث في الواقع المحيط، مما يعكس تأثر الأديب والكاتب ‏بما يدور حوله، وينفي صلته بمجتمعه وبيئته وهموم وشجون مواطنيه ووطنه، فضلا عن ذاته.

وبما يؤكد ‏على كون المبدع ليس كائنا منفصلا أو منبتا عما حوله، وهو بلا شك تأكيد على أهمية دور الكاتب في ‏مجتمعه واختلاطه بهمومه التي تنطلق من همومه الذاتية، لا قوقعته وعزلته، وممارسة إبداعه من موقع ‏الأعزل المنطوي، بعيدا عن بؤرة صراعات المجتمع ومشكلاته ؛ فالخيال وحده لا يصنع إبداعا أو فنا.‏

إلا أن لافتات التميز والظهور اللافت، قد أعطت وجهها المضيء لأعمال نجيب محفوظ الروائية الفذة التي لا ‏خلاف حولها، رغم توفر إبداعه القصصي على أسباب متعددة للنبوغ والسطوع؛ فنبض مجموعاته ‏القصصية بداية من مجموعة "دنيا الله"، التي صدرت طبعتها الأولى 1962، وبلغت عدد طبعاتها ست ‏طبعات حتى عام 1987، ونشرت قصصها بالكامل بجريدة الأهرام المصرية عامي 1961-1962 "3".

جاء ‏هذا النبض معبرا عن اكتمال الرؤية الإبداعية، وتكاملها مع ما يواصل العزف عليه من تنويعات روائية ‏مبدعة، ظلت ترتقي إلى مستويات من الفكر الجديد والتأصيل معا، كما جاء متسقا مع ما يدور حوله من ‏أحداث تحيط بالمجتمع وأخطار تحيق به؛ فمع روايات مرحلة ما قبل وما بعد النكسة ظهرت مجموعات ‏‏"خمّارة القط الأسود" 1969، "تحت المظلة" 1969، "حكاية بلا بداية ولا نهاية"1971، "شهر العسل"1971، ‏‏"الجريمة" 1973، بحسها جميعا المتسق مع روايات نفس المرحلة، النفسي والمادي، والمكمل لرؤيتها على ‏المستويين الاجتماعي والعام.‏

كذلك أتت باقي المجموعات لتساير نبض إبداع نجيب محفوظ المتأصل بقيمة التصاقه بهموم وقضايا الوطن، ‏وتمكنه ببراعة التوازن بين تأثره المتفاعل مع واقعه المحيط، والمنفعل به، والقدرة الهائلة على التعبير؛ ‏ليصوغ لنا مجموعة من النصوص القصصية المعبرة، المرتبطة بمجموعات تحقق له فيها النبوغ القصصي ‏على نحو من تطويع المادة القصصية، وأسلوب القص المتنوع بين اعتماده على استخدام الحوارات ‏المتصلة المعبرة عن دراما الموقف القصصي، في الكثير من النصوص مثل نص "روبابيكيا ـ مجموعة ‏حكاية بلا بداية ولا نهاية"، أوحوارات تشارك السرد بصورة شبه متكافئة، أوسرد تقطعه الحوارات الدافعة ‏لحركة النص، وهكذا؛ لتتماهى أساليب عدة في بناء / معمار متون نصوصه القادرة على التلون، قدر ‏عطائها، لإبراز الرؤية العامة كإطار للنص، وكذا الرؤية الخاصة كمدلولات على ما يريد طرحه من قضايا ‏إنسانية واجتماعية وسياسية ومعالجتها.‏

لا شك هي براعة الروائي في شخص المبدع / الرمز الكبير، الذي ابتلع بريق أعماله الروائية الكثير من ‏الضوء الواجب تسليطه على نصوصه القصصية المثيرة للدهشة والعجب، وكما يقول نجيب محفوظ في ‏معرض سؤاله، في أحد حواراته، حول ظلم قيمته ككاتب قصة بارع، لحساب تفوقه في كتابة الرواية: ‏‏"العادة هكذا..

إذا اشتهر الإنسان بنوع معين، لا يرد ذكره إلا في هذا المجال وحده مهما كانت له قيمة ‏شيء آخر.. فسيظل يوسف إدريس عند الناس كاتب قصة قصيرة مهما كتب من روايات.. وأنا لا أعتقد أن ‏الظلم يقع عليّ بقدر ما يقع على الأدب ذاته، والمضحك والغريب أن قصصي القصيرة منتشرة بين القراء ‏أكثر من كتاب القصة الفعليين، كل مجموعة طبعت خمس مرات، وكل طبعة بالآلاف. على أية حال إذا كان ‏النقد قد ظلمني في هذا المجال، فقد عوضني القراء" "4".‏

فهو بهذا الرهان الرابح يكون قد تلمس جوهر الحقيقة، وجوهر القيمة الأدبية الساطعة، التي تسبغ على ‏المبدع حقه ولا تغمطه؛ حيث أن الفيصل دوما والرهان الحقيقي للمبدع هو القارئ، وأي قارئ؟

لابد أن ‏يكون قارئا محبا متابعا شغوفا، لا تفوته درر الإبداع ولا مذاقه، ولا متعة البحث عنها. لكن لا شك في أن ‏للإعلام دور هام لا يمكن إغفاله. وكما يقول في موضع آخر من حواراته الثرية، منتقدا بحسه الساخر تلك ‏النظرة النقدية/الإعلامية المحدودة الضيقة لتجنيس النوع الأدبي، دون إطلاقه على حرية المبدع في التنقل ‏بين أنواع الكتابات الأدبية، وإلزامه، قسرا، بنوع لا يعرف إلا به، مهما أوتي من أسباب التفوق والإبداع ‏اللافتين، الدافعين لحركة الإبداع بصورة عامة: "... كأن الأمر خانات توضع فيها بطاقات التوصيفات ‏وملفات الوظائف واللوائح، وأنها عملية تنطبق عليها تداعيات الإشاعة، فمن السهل أن تطلق الإشاعة، ‏ويتسع مداها ولكن من الصعب أن توقفها" "5".‏

لكن الأمر لا يعدو كونه غمط لحق، تستنفر على رده تلك القراءات المتواصلة الواعية التي تحاول استجلاب ‏الغالي والنفيس من إبداعات محفوظ القصصية، التي لا يجب توقف البحث فيها، انطلاقا من كونها خطوط ‏متوازية مع خطوط إبداعه الروائي الفارق، بنظرة تكاملية عميقة؛ فمن الحياة وتشعباتها ونهمها، وإليها ‏تنطلق كتاباته القصصية لتعانق دقائقها وساعاتها وأيامها، عناقا أدبيا راصدا، متغلغلا، حالما، رافضا، ‏مستنكرا، آملا في واقع جديد / حياة موازية، تتغير دائما لتحريك برك الحياة الراكدة، تأصيلا لرسالة الأديب ‏المبدع الفنان، لدفع حركة الفكر ومخيلة الإبداع لدى متذوقه وقارئه ومبدعه على حد السواء.‏

ولتتخذ الحياة صورها المتعددة على مدار قصصه القصيرة التي تخطت حاجز المائتي قصة قصيرة، تنوعت ‏مضامينها واختلفت، لتصب في مجرى نهر الحياة، وتساير إيقاعها من منظورها الخاص والعام، المادي ‏والمعنوي، الرمزي والفلسفي على حد السواء.‏

 

الهوامش:

‏ "1" روايات الهلال ـ العدد 479 ـ عدد خاص بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب 1988 ـ ص 8‏
‏"2" بنية القصة القصيرة عند نجيب محفوظ ـ محمد السيد محمد إبراهيم ـ كتابات نقدية ـ قصور الثقافة ‏‏2004‏
‏"3" المرجع السابق .. ص 35‏
‏"4" هكذا تكلم نجيب محفوظ " محاورات " ـ عبد العال الحمامصي ـ قصور الثقافة ـ طبعة ثانية 2006‏
‏"5" المرجع السابق .. ص 160‏

محمد عطية محمود

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...