كيف يعيد أدونيس كتابة «الثابت والمتحول»؟

11-03-2009

كيف يعيد أدونيس كتابة «الثابت والمتحول»؟

المحاضرات الأربع التي ألقاها أدونيس في مكتبة الإسكندرية في تشرين الثاني 2006، أضحت كتاباً، وصدرت عن دار التكوين في دمشق في أواخر العام المنصرم (2008)، تحت عنوان «محاضرات الإسكندرية». تناول أدونيس فيها شؤوناً وشجوناً ثقافية تصدر عن شغفٍ حقيقي بالسؤال الفكري وتتوزع على المحاور الآتية: كتابه الشهير «الثابت والمتحوّل»، ديوان الشعر العربي الذي حقّقه في الستينات، الشعر والفكر، والشعر والهوية، أي هي محاور تهدف الى وضع الشعر العربي، باعتباره فنّاً رفيعاً، في قلب السؤال الفكري، وبذلك بدت هذه المحاضرات الأربع بصورةٍ تلقائية محلاً لنِزاعٍ من النوع الخفيّ، إن جاز التعبير، بين اثنين: الشاعر والمفكر.
في الكتاب مراجعةٌ نقديةٌ ذات منطلق فكري لإنجاز الشاعر المتمثّل أوّلاً في كتابيه: «الثابت والمتحوّل»، و «ديوان الشعر العربي»، والمتمثّل ثانياً في تجربته باعتبارها ركناً أساسياً من حركة الحداثة العربية، التي تتجاوز المفهوم الضيق القائل بقصيدة «حداثية» مُنَزهة عن واقع عربيٍ بعينه، لتشملَ نمط التفكير وراءها وأساليبه، على نحوٍ تغدو القصيدة فيه انعكاساً لا لانقلابٍ شكلي فحسب، بل لتغييرٍ جذريٍ في طريقة «خلقها»، يشير بدوره إلى العوائق والعقبات التي تحول من بابٍ أوّل دون تلقيها بعيداً من الأفكار المسبقة، ويشيرُ من باب ثانٍ إلى أصل بعض هذه الأفكار المسبقة من خلال وضعها في سياقِ منظومةٍ ثقافيةٍ سائدة، يغلب النقل فيها العقل، وفي الجملة تغدو الروابط التي يركّز أدونيس عليها بين الشعر والفكر، ومن ثمّ بين الشعر والهوية، ليست نافلةً على الإطلاق، بل هي تبطن في ثناياها ملامح بعض أسباب «أحوالنا العربية» الرازحة تحت سلطة ثلاثية الوجوه؛ ثقافية وسياسية ودينية.
ولعلّ المحاضرة الأولى الخاصّة بكتاب «الثابت والمتحول» (الثابت والمتحول بعد أربعين سنة، كيف كنت سأكتبه اليوم؟)، تصل خيطاً مقطوعاً، إذ إن إعادة النظر في هذا الكتاب من جانب الكاتب نفسه، تبيّن أن الفرضيّة الرئيسة التي قام عليها لم تتغير، الأمرُ الذي حتّم عليه، كما يبدو، «توسيع حدوده» من خلال أمرين: 1- التشديد «نظراً وتحليلاً، على الربط بين قضايا العرب تراثياً، وقضاياهم الحية الراهنة حياتيّاً».
2- النظر في علاقة النصّ القرآني «بصفته كتاباً إلهياً مع الكتب المقدّسة الأخرى وبخاصّة التوراة والإنجيل... وبصفته نصّاً جامعاً للثقافات قبله إلى جانب كونه نصّاً لا تاريخيّاً».
3-  الانقلاب الذي حدث في «السقيفة»، باعتباره أدّى إلى تغيير «العلاقة بين الدين والسياسة». وفي كلام آخر سيركزّ أدونيس على العلاقة بين التراث والحاضر من أجل الكشف عن سبب «التكفير» الناجم عن قراءة وممارسة معينتين، واضعاً في الوقت نفسه الكتابة كمفهوم محوري في ذلك، ومتوسلاً أسلوب الأسئلة التي تحمل أجوبتها في طياتها: «أليس في هذه القراءة - الممارسة ما يضمر أن الإسلام لا يمتلك في ذاته عناصر الجذب والقوة والإشعاع التي تجتذب البشر إليه... وأنه لا يفرض نفسه إلا بالعنف والقوّة؟»، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن المقارنة بين النص القرآني والإنجيل والتوراة، ووضع مسألة اللغة - الكتابة في قلب التحليل، تعني في نهاية المطاف أن «توسيع الحدود» المفترض يصل خيطاً خفيّاً بين «الثابت والمتحوّل» وكتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، من حيث انطلاقهما من نقطة واحدة؛ ما هو هذا التراث الذي وصلنا؟ كيف ينعكس على طرق التفكير الحالية وأساليبه؟ وإلى ماذا يؤدّي؟ أيعمل كعائقٍ حقيقي في وجه «الحداثة» أو «التمدن» المنشودين؟ حيثُ تنضوي هذه الأسئلة كلّها تحت أمر شبه وحيد يقدح زناد البحث والفكر في كلّ مرّة: من نحن؟ وكيف نكون؟ من هنا تغدو مراجعة الماضي أمراً لا مفر منه، لكن هذه المراجعة تتمّ من خلال أسئلة مختلفة عن أسئلة السلف، بحيث يغدو ما كان مقبولاً في الماضي موضع مساءلة في الحاضر، إذ إن أدونيس يفعل عكس ما فعل طه حسين، الذي وضع الشعر الجاهلي تحت مبضع منهج ديكارت في الشك، من أجل غاية محددة هي نقد التفكير الديني لا الدين، حيثُ يستند أدونيس إلى تراث الشعر العربي ليغيّر من نظرةٍ سلبيةٍ لا ترى فيه أكثر من الأنا الناطقة باسم الجماعة، ولا تقبل الخروج عن سنّة محدّدةٍ في قراءته، وفي النظر إلى علاقته بالنصّ القرآني، حيثُ ينتصر لأمرين: إبراز «الذاتية بصفتها معياراً شعرياً أوّل»، و «محاربة» الذائقة التي كانت «ولا تزال مشحونةً باللغة - الدين وأخلاقها وآدابها».
ويستطيع أدونيس العارف والخبير بالتراث الشعري العربي، أن يصوب سهامه بدقّة نحو مآل «الذائقة» التي تنظر إلى الأمور لا فيها: «وها هي الذائقة الشعرية اليوم، تتابع ابتعادها عن القضايا الكبرى، وعن المخيلة الثقافية والتاريخية، وتغرق في اليومي، السطحي، العابر- في الخبر، والصورة الفوتوغرافية والأغنية».
 فمن خلال منطلق الشعر وما وراءه، يزن أدونيس قوله كلّه، فالشعر متعدّد محرّرٌ، لا يخاف من العلاقة بين الذات والآخر، ولعلّه أعلى من الفكر، إذ إن هذا الأخير «ذائب في الشعر، في لغة الشاعر ورؤيته وتجربته»، ويؤكد أدونيس هذا من خلال نظرته الرفيعة إلى شعر ما قبل الإسلام، حيث يرى أن المواضيع التي تطرّق إليها (الحبّ، المرأة، زوال الشباب، السعادة،... الخ) ليست منبتة الصلة عن الفكر، إذ «كان الفكر في التعبير عنها ذائباً في نهر الكلمات كأنه العطر والهواء». ومن خلالِ إعلاء الشعر على هذا النحو، ينتقد أدونيس السلطة الدينية - السياسية التي تحابي «التعبير عن العواطف والانفعالات، وعن العادات والتقاليد، مدحاً وهجاءً ورثاءً»، وتأنفُ من الشعر - الفكر، باعتباره باباً للحرية والاختلاف، فالصراع ليس بين الشعر والدين، بل هو صراع بين البنية المعرفية الدينية والبنية المعرفية الشعرية. فالأولى تنظر إلى الإسلام «بصفته ديناً ألغى مجهولات العالم من حيث إنه قال الماضي والحاضر والمستقبل وكل شيء مرّة وإلى الأبد.
 وينظرون إلى المسلم كما لو أنه سيعرف كل شيء إذا عرف كيف يقرأ النص الديني»، وذلك ضمن قراءة وتأويلٍ يمنعان البحث والاجتهاد. أمّا البنية المعرفية الشعرية فهي مضمار الأسئلة ومواجهة المجهول، من هنا تختلف النظرة إلى المجاز، فهو في الشعر «لغة ثانية تتكلم داخل اللغة»، وهو الذي يوّلد المعنى ومعنى المعنى، ومن وراء المعاني تتضحّ الأفكار التي تعزفُ عن اليقين وتميلُ إلى الشك في كل شيء من طريق الأسئلة الوجودية والميتافيزيقية، وعبر ذلك كلّه تتضحّ هوية الشاعر.
وموضوع الشعر والهوية الذي يشغل المحاضرة الرابعة في الكتاب، لن يُؤتى بأسلوبٍ مختلف، فأدونيس متمكنٌ من طرحِ الأسئلة الصعبة التي تحمل الجواب الإيجابي في ثناياها، إذ هو يستند إلى مكر المحاججة المنطقية، فلا تصحّ نسبة الهوية إلى المكان أو الدين أو الأيديولوجيا أو حتّى اللغة، حيثُ تتكفلُ الأمثلة التي يوردها (الإسكندرية مصرية أم عربية أم إسلامية، ومن ثمّ المبدعون العرب الذين كتبوا بلغة أجنبية: جورج حنين، صلاح ستيتية، عبدالكبير الخطيبي، إدوارد سعيد)، بإظهار الخطأ في ذلك، أو دفعه إلى مزيدٍ من التعقيد. ولا يتمّ لأدونيس إظهار رأيه الخاصّ، إلا بعد «تفكيك» مفهوم الهوية أو تحريره من تعريفٍ يأسره بالضرورة عندما تُنسب الهوية إلى ما هو مغلق ومستقر ونهائي. وعلى العكس من ذلك، يرى أدونيس الهوية بصفتها «مشروعاً مفتوحاً وإبداعاً متواصلاً في أفق مفتوح».
وضمن هذا السياق، ينتصرُ للشعر الثانية، فلا هوية خارج الإبداع، إذ إن «الهوية بمعناها الإنساني الأعمق لا تُلتمس في المشترك العامّ السياسي الاجتماعي وإنما تُلتمس في الخاصّ الإبداعي»، لذا ينحازُ إلى الشعر، ويوجه نقداً لاذعاً لمن لا يقرأ التراث الشعري: «فهناك عرب كثيرون يعزفون عن قراءة هذه الأصول أو لا يعرفون أن يقرأوها ... وبعضهم ينظر إلى هذه الأصول بصفتها تعبر عن عالم انتهى».
 وللشاعر أدونيس الحقّ كلّه في أن ينصر الشعر، وأن يطرح الأسئلة عن الحرية والفكر والدين والسياسة. وهو يفعلُ ذلك مسخِّراً بلاغته ومعرفته العميقة بالتراث، ومنحازاً إلى الشاعر لا الى المفكر فيه، فلا يتوانى عن أن يُقوّلَ الأخير الذي يبحثُ في الهوية: «يصبح الشعر كمثل نسيجٍ يندرج الوجود كلّه في خيوطه»، وليس إلا الشاعر الذي قال ويقول هذا في قصيدته/هويته: عش ألقاً وابتكر قصيدةً   وامضِ، زد سعة الأرض.

ديمة الشكر

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...