كافكا على الشاطئ

01-04-2008

كافكا على الشاطئ

بعد أن أصدر له في وقت سابق ترجمة لثلاث من رواياته هي «جنوب الحدود... غرب الشمس» و«الغابة النرويجية» و«سبوتنيك الحبيبة»، يعود «المركز الثقافي العربي» (بيروت ـ الدار البيضاء) إلى إصدار ترجمة جديدة لرواية أخرى من روايات الكاتب الياباني هاروكي موراكامي «كافكا على الشاطئ» (670 صفحة من القطع الكبير، وفي نشر مشترك مع «كلمة» في «الإمارات العربية المتحدة»، وهو مشروع لنقل أمهات الكتب الغربية إلى العربية، ونقتلها إيمان حرز الله، وراجعها سامر أبو هواش). هنا مقالة عن كتاب موراكامي.
كافكا تامورا، صبي في الخامسة عشرة من عمره تقريبا، يغادر منزل ذويه لأسباب ملحة بقدر ما كانت أسبابا غامضة: لقد تنبأ له والده بالمصير عينه الذي عرفه أوديب. هناك أيضا ناتاكا، وهو رجل عجوز فقد الكثير من قدراته الثقافية في مطلع شبابه (إلا أنه اكتسب قدرات خارقة كأن يتكلم مثلا مع الهررة أو أن يجعل السماء تمطر أسماكا أو علقا)، الذي بدأ بدوره سيرة من التجوال على الطرقات بعد أن كان قد أجبر على القيام بقتل رجل مجهول في ظروف غامضة ومجهولة بدورها. وهذا المجهول الذي قُتل، لم يكن سوى والد كافكا، لكنه كان أيضا أكثر من ذلك: كان مخلوقا شيطانيا يستطيع أن ينسج، في ما وراء الموت، علاقات سيئة ومؤذية بخلاف ابنه وبخلاف تلك المرأة الشابة التي كانت سجينة حب متكامل إلى أقصى الدرجات: الآنسة ساييكي.
قد يبدو تلخيص رواية «كافكا على الشاطئ» بهذه الطريقة، أمرا فيه الكثير من الحيرة والاضطراب للقارئ المتآلف مع روايات الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، وربما تبدو أيضا رواية كاريكاتورية بالنسبة إلى للآخرين الذين لا يعرفون عن أعماله أي شيء بعد. ثمة قطط بالتأكيد، كما في أغلب أعماله، من أجل عملية إطلاق الحبكة التي تأتي على شكل بحث مساري (أو تدريبي)، ثمة أيضا قفزات فجائية من الفضاء الياباني المعاصر، الواقعي بمعنى من المعاني، باتجاه عالم فانتازي مرعب في أغلب الأحيان. هناك الأحلام التي تأتي بمثابة وسيلة للبلوغ نحو بُعد آخر من أبعاد الذات والفضاء، والشخصيات الثانوية الآسرة (كالثنائي الفكاهي ناتاكا ـ هوشينو الذي يبدو ثنائيا ناجحا)، والفتيات المحنكات والخبيث المخيف، ودور الموسيقى وأهميتها، وذاكرة الماضي الامبراطوري في اليابان، أيضا وأيضا ذلك النسيج الجميل ما بين العديد من القصص. بمعنى من المعاني، وربما بخفة أكثر في هذا الكتاب، نعود لنجد الكثير من عوالم الكاتب التي سبق أن وجدناها في كتب سابقة له من مثل «سباق الخراف البرية» و«ارقص، ارقص، ارقص» و«نهاية الأزمنة» وغيرها...
«موتيفات فانتازية» من هذه النقطة نستطيع القول إن هاروكي في هذه الرواية يحاول أن يكتب على طريقة موراكامي، أكثر مما فعله في رواية سابقة له «سيوتنيك الحبيبة» ـ (وفق الترجمة العربية بينما عنوانها الأصلي «عشاق سبوتنيك»، على الأقل بحسب الترجمتين الفرنسية والإنكليزية) ـ حيث بدت كأنها تشير إلى جهد كبير باتجاه تجديد الأسلوب الروائي المرتكز على الاقتصاد في الموتيفات الفانتازية. ومع ذلك، فإن كنا نجد أن الكاتب قد أعاد «صوغ» ذلك كله من جديد، فالأمر ليس عائدا بالتأكيد إلى أي نضب إبداعي. إذ لم يكتف الروائي في إدخال العديد من الموضوعات الجديدة إلى كتابه الأخير ولم يكتف أيضا بالاتجاه إلى العنف غير المعتاد سابقا، بل إنه حاول أن يطور بُعد الخطاب الانعكاسي.
وبين ذلك كله، نجد العديد من الموسيقيين الكلاسيكيين كما موسيقيي «البوب» الذين يعزفون وكأنهم يأتون من الهاوية، بالإضافة إلى الأساطير القديمة (أسطورة أوديب والتراجيديا اليونانية، كاساندرا، المتاهة)، مناخ الحكايات التقليدية (الغابة العميقة التي تذكرنا كثيرا بمناخ حكاية «هانسل وغريتيل»)، الكتاب الكلاسيكيين اليابانيين أو الغربيين: يتحدث الشاب كافكا تامورا، عن «عامل المنجم»، رواية سوزوكي، بينما يشير صديقه أوشيما إلى أهمية الظلمات والأشباح في «أقوال جنجي» أو كما في «حكايا المطر والقمر»؛ نجد أيضا غوته وكافكا اللذين يأتيان بدورهما ليضيئا معنى الرواية، هذا من دون الحديث عن ييتس الذي تأتي جملته «في الأحلام تبدأ المسؤوليات»، لتشير إلى مجموع أعمال موراكامي بأسرها.
- يبدو بطل رواية موراكامي قارئا نهماً أكثر مما يبدو أنه على قطيعة مع النظام المدرسي: إذ تساعده الكتب على أن يفهم أكثر وضعه الخاص، كما أنه يتمتع بنصائح القراء الأكثر دراية منه. من هنا، ليس من قبيل الصدفة أن يجد ملجأ في مكتبة بالقرب من شخص يملك حرارة داخلية: أوشيما. أضف إلى ذلك انه كان باستطاعته الاعتماد على شخص اسمه غراب (كرو)، الذي يبدو كأنه صوته الداخلي الذي يظهر في اللحظات الحاسمة. ويشير موراكامي، في هذا السياق، وعبر إحدى الشخصيات الى أن كافكا، باللغة التشيكية، تعني غراباً. من هنا كان الكاتب التشيكي كافكا يمثل بالنسبة إلى كافكا تامورا ما كان يمثله فيرجيل بالنسبة إلى دانتي: أي ذلك الدليل في هذه الغابة المبهمة التي عليها العالم المعاصر، وذلك عبر متاهات الزمن والأجيال، كما أنه مؤلف «رسالة إلى الأب»، بمعنى انه صديق الوحدة والألم.
لكن علينا أن لا نصدق أن هاروكي موراكامي يجد متعة في مديح الكتب. لأن فعل اختياره لكاتب على هذه الدرجة من «التعقيدات» مثل كافكا يشير إلى هذا الأمر: إن الكتابة هي، في الوقت عينه، تطلب وفخ، جواب على عالم يمكن له أن يستدير باتجاه الانطواء. هذا ما حصل للآنسة سايكي التي توقفت حياتها وهي في العشرين من العمر في الوقت عينه الذي بدأ فيه حبها الكبير بالتجول في ممر طويل غارق في الظلام، بينما كانت تسجل وجودها الوهمي، كأن تقول إنها كتبت هذه الذكريات كي تعيد ترتيب النظام في داخلها، لتعرف من كانت، لتعرف أي حياة عاشت. وبالرغم من كل شيء، كان على هذا المخطوط أن يبقى خفيّا، أي أن لا يقرأه أحد (وبخاصة كافكا تامورا الذي يمكن له أن يعرف، عبر هذا المخطوط، الذي يبدو أشبه بـ«رسالة إلى الأب»، بأن الآنسة ساييكي الذي مارس الجنس معها ذات يوم، كانت والدته في الواقع). يجب إتلافه كي لا يجلب الأمر خسارات أخرى، وهذا ما حدث في ما بعد، من قبل شخص أميّ، هو ناتاكا، إذ كانت الكتابة بالنسبة إليه خير وشر في الوقت عينه، وإن لم تكن في الواقع ملجأ للوقت الذي يمضي. بل على العكس من ذلك، نجد أن موراكامي يعلّم شخصيته الشابة بأن «يصبح أقسى» وبأن يهرب من هذه التجربة التي كانت السبب في هلاك الآنسة ساييكي. ثمة مهرب من هذا الهلاك: المدينة المسمرة في الماضي الذي يلتحق به كافكا تامورا، بعد أن يجتاز غابة من غابات حكايات الساحرة بفضل مساعدة جنود نجوا من الحرب العالمية الثانية. مدينة تذكر، وبخلاف أجوائها الكافكاوية (نسبة إلى الكاتب التشيكي) بالقرية التي وجدناها في روايته «نهاية الأزمنة»، إذ يجد هناك السلام لكن ما من أمل فيها للعودة إلى الوراء. إنه مكان على شكل مأزق لأن الزمن بعيد عنه، كما أن ذكرياته قد امّحت. ونتيجة لذلك، أصبحت الكتب فيه منفية، كما كل شيء يمكن له أن يُطبع حتى ماركات الثياب، هذه الماركات التي كثيرا ما تسلى موراكامي، كروائي، في الإشارة إليها كتعبير عن الزمن الراهن.
إذ إن هذا الزمن الراهن، لديه صوره الأسطورية: أب الشاب الشرير الذي يظهر في بداية الرواية تحت سمات «جوني والكن»، أي سكب السائر في ماركة الويسكي الشهيرة، بينما نجد شخصية أخرى، كان هدفها أن تسهر على توازن الواقع، والتي تظهر تحت شكل «الكولونيل ساندرز»، الذي يرمز سلسلة «الفاست ـ فود» كنتكي فرايد تشيكين. إن استعمال «أيقونات الرأسمالية» هذه تشير إلى شريان الرواية الساخر، الغريب، وهو أمر يتراءى جديدا عند الكاتب الياباني، إلا أنه يضع فوق خشبة الأحداث معركة ذات رنين مرعب، ذات طبيعة متوحشة في نهاية الأمر. هذا ما نجده في جريمة قتل والد كافكا تامورا، وفي معركة هوشينو الأخيرة، رفيق ناتاكا، ضد الوحش الذي يحاول أن يتسرب إلى العالم الإنساني بواسطة جثة، أو كما في نضال الصبي المدعو غراباً من خلال ضربات منقاره في عين خصمه. ففي هذه الحرب وبعد أن يتحدد كنه هذا الشر، علينا أن لا نتردد أبدا: هناك جنود الغابة الذين بقوا فيها بعد أن هجروا تلك الحقبة التي كانت الأوامر قد أعطيت لهم بقتل وتمزيق أحشاء «الصينيين والروس والأميركيين»، إذ إننا اليوم في عالم، إن «لم تشك فيه رمحك ببطن العدو ولتديرها بعد ذلك لتمزق أحشاءه، فإنك أنت من سيتعرض لذلك».
«من أصل هذه المتاهة استوحينا شكل المصير، بمعنى آخر، إن مبدأ المتاهة موجود في داخلك وهو يشبه متاهة خارجك». لقد كان أب البطل نحاتا شهيرا، كانت أعماله تبحث عميقا في معنى المتاهة، كما أنه كان «وحشا» يمزق أحشاء القطط. بينما كان على ابنه، مثله مثل العديد من الشخصيات «الموراكامية» الأخرى، أن تجد «مدخل عالم آخر»، محمي عبر غابة معتمة، مدخل مكان كانت الآنسة ساييكي تبقى فيه «إلى الأبد وهي في الخامسة عشرة من عمرها»، وحيث وجدت فيه أيضا «الشرطين» الأساسيين، الكبيرين، اللذين يناغمان ما بين العمق والمادة للأغنية التي كانت تؤلفها بعنوان «كافكا على الشاطئ». إذ إنه في هذا العالم الآخر (وفي سلطة الاستعارات والمجازات) نجد بعض المفاتيح لكينونة كافكا تامورا ومنبع الأشياء التي تؤسس للواقع.
بالتأكيد إن رواية «كافكا على الشاطئ» رواية تعليمية أو على الأقل تبدو كتنويع على هذا النوع، بالمعنى الموسيقي للكلمة، ضمن فضاء أصبح رأسا على عقب. إنها أيضا بمثابة «فن شعري»: أي هي عمل طموح يعود من خلالها هاروكي موراكامي إلى عمله الأصلي وإلى معنى الإبداع الفني في مواجهة بربرية عصرنا الحاضر كما بربرية الشرط الإنساني في هذا «العالم الذي يقف على آلية المحو والفقدان». وبالتأكيد أيضا سيجد فيها عشاق موراكامي سببا إضافيا لاعتباره واحداً من أهم كتاب زمننا الراهن الذي يعيد تقديم صورة عن اليابان الحديثة، بعيدة عن تلك الغارقة في تقاليدها كما اكتشفناها مع العديد من الكـتاب اليابانيين الذين قرأناهم قبله.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...