فتيات القرى في دمشق بعد التخرّج: كذب أبيض وعمل.. لصناعة مستقبل

25-02-2009

فتيات القرى في دمشق بعد التخرّج: كذب أبيض وعمل.. لصناعة مستقبل

لا تزدحم العاصمة بالكثير من الأحلام، لكــنّها تعدُ ببــعض الممكنات. لذا يصبح الاستمرار فيها عنصراً جاذباً لبعض «المشاغبات»، اللواتي يكسرن دورة الحياة التقليديّة للفتيات السوريات، المتمثلّة بالحصول على شهادة البكالوريا، الدراسة الجامعيّة، ثم وظيفة تيّسر أمور الزواج، والذي أحياناً ما تقوده عائلة تجمع إلى القليل من المال والحكمة الكثير من التسلّط.
هؤلاء المشاغبات، يخضن مع عائــلاتهنّ حــروب إقنـاع، كي يستــطعن البقاء في دمشــق. حرب يحــتلّ فيها الــكذب الأبيــض مكانةً مرموقة. هنّ لم ينجررنّ إلى لعبة المدينة التي «تضرب بــيد من حديد» كل الحالمين فيها، ولا أحــلام كبيــرة لديهنّ. وإن تجــرّأ خيالهن على الحلـم قليلاَ، فلن يغــادر تلك البقعة العاطفــيّة، التي تــنهمّ بملاقاة عريس يذهبن إليّه، لا رجلاً تأتي به الأم أو الأخت أو الأب أو.. القرية كلها!.
-  «لا أحد في القرية سوى أبي وأمي»، تقول سناء. وجود أخوتها وأخواتها وفرصة العمل الجيّدة بشركة اتصالات في دمشق، أمنّا لها البقاء في العاصمة، دون حروب، «ولكن لا يخلو الأمر من بعض الاشتباكات بين وقت وآخر». سؤال «لماذا؟»، يستفزّها عاطفيّاً. «أحياناً، حين أفكّر أن أبي وأمي يعيشان وحيدين وفي عزلة شبه تامّة، أشعر، عن جدّ، ببرودة في جسدي كلّه، ويصير لديّ رغبة في الذهاب لرؤيتهما. وحين أذهب، أضجر من المكان ومن أبي ومن أمي بعد ساعات فقط». يبدو أن الـ «لماذا؟» الثانيّة، تضرب على وتر حسّاس لدى سناء. تصمت قليلاً، تأخذ غبّة من لفافتها، ثم تقول ببساطة: «على الأقل هون فيّ دخّن، وعلى الأقل هون ما في عرسان كل يوم والتاني»، ثم تتابع بهدوء: «بالطبع أنا لست ضدّ العرسان، أو ربما بالعكس، ربما لأنّه يوجد لدي عريس هنا..»، تضحك وتضيف: «ببساطة أشعر بأنّي لم أعد أنتمي لذاك المكان، بأنّني لم أعد بنت ضيعة!!».
يختلف الأمر بالنســبة لمايا، فهي استغلت من خلال كذبة «بيضاء جدّاً» كما تصفها، تاريخاً طويلاً من التعامل الصادق مع أبويها، لتبرير بقاءها في دمشــق: «أخبرتهم أنّه ما زالت لدي خمس مواد دراسيّة، مع العلم أنّي تخرّجت منذ سنّة». بقاؤها في دمشق ليس غايّة بحد ذاتها، بل «الهـروب من جوّ القــريّة هو الغايّة»، تتابع: «هل تعتقد أنّه بعد خمس سنوات من الحياة في دمشق المزدحمة والصاخبة، والتي يمكنك أن تمشي كل يوم فيها بشارع مختلف، يمكن أن تمرّ بسهولة، ويمكن بعدها أن تعود إلى قريّة تقطعها سيراً على الأقدام خلال عشرين دقيقة؟». وتجيب على سؤالها بنفسها: «مستحيل..!».
الإجابة المرفقة بحركة استنكاريّة من يدها، تغلق الباب على أي سؤال، سوى ذاك المتعلّق بالمستقبل. «أخططّّ لإيجاد عمل، وحين أنجح بذلك، سوف تنحل الأمور، سيكون إقناع أهلي بالبقاء هنا بسيطاً، فأنا أعتقد أنهم لن يرضوا بأن تذهب خمس سنوات من الدراسة هكذا». وحين تسألها «خمس أو ست؟!»، تجيبك بضحكة خفيفة و«إنسى!».
- لا تتأخّر سلاف في تأكيد الإيحاء الذي يعطيه جسدها النحيف وأصابعها الرفيعة بأنّها تتمتع بشخصيّة قويّة. يتمّ ذلك من خلال طلبها من النادل «لا تتأخر بالطلب لأنّو مو مطولين». المسألة بسيطة لديها: «بعد أن سافر أخي إلى الإمارات تخلّصت من الضغط الكبير الذي كان يمارسه علي للعودة إلى القريّة، أبي وأمي ليس لديهما مشكلة في بقائي هنا، طالما أرسل لهما شهرياً مبلغاً من المال. وهم يعرفون أنّني إن عدت لن أجد أي عمل هناك، وسأكون عالّة عليهما». أتى الطـلب وهو عــبارة عن فنجانين من القهوة. هدوء وسيجارة يسمحان بطرح سؤال يتعــلّق بالمستقبل «طالما أنّي أعمل هنا سأبقى هنا، في القريّة لا يوجد شيء، أمّا بالنسبة للزواج فهو أمر لا يشغلني كثيراً، فالمهم إن يبني الإنســان ذاته قبل أن يفكر ببناء عائلة!». تصرّ سلاف على دفع الحساب قبل أن تستأذن. وتنصرف تاركة وراءها تساؤلات حول معنى وجود جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة.
تتحدّث لين بالأمثلة، تحيل الأســئلة الكبيرة نوعاً ما إلى تساؤلات بسيطة ساخرة: «لا أستطيع العــودة إلى مدينتي، مدينة صغيرة، مثلاً أروع التجارب التي يمكن أن تعيــشها في مدينــتي هو قطاف الزيتون!»، ثم ومع الكثير من الــتهكم، «حيث تتــناول مع الأهل والأقــارب والأصدقاء كأس شاي و«عروس» زيت وزعتر تحت الشجرة... وهذا كل شيء».
تستغل لين ضحك محدّثها، فتتابع «هل أستطيع أن أشاهد مسرحيّة هناك؟ بالطبع، ويمكنني أن أشارك في التمثيل لكن من خلال مسرح «اتحاد شبيبة الثورة» فقط. أو ربما يمكننّي أن انتظر المسرح الجوّال!!». لكن ماذا عن العائلة والحروب؟. «نعم، خضت حروباً حقيقيّة، داحس والغبراء إذا بدك، لكن وبمجرد الحصول على الاستقلال المادي، أصبح الأمر أكثر سهولة، حتى أنّهم في النهاية لم يطلبا منّي المجيء مجدداً، لأنّ الزيارة ستكون مناسبة دسمة للحديث عنّي من قبل العمّات والخالات والجيران وكل من له علاقة، وهو في الحقيقة ليس له أية علاقة».
ذكر دمشق، وليس الشام، يحرّض لدى لين مزاجاً شعريّا: «هذه المدينة صنعتني، أعادت خلقي أنا البنت الساذجة القادمة من مدينة صغيرة وبعيدة، صحيح أن الطريقة الوحيدة التي تصنعك دمشق من خلالها هي عبر سحقك، ولكن يبقى الأمر أفضل من أن تتفسخ بين مواسم قطاف الزيتون!».

 

محمد دحنون

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...