غسان الرفاعي: ايديولوجيات في «سوق البراغيث»

03-01-2011

غسان الرفاعي: ايديولوجيات في «سوق البراغيث»

-1-
استوقفني- وأنا أتجول في «سوق البراغيث»- إعلان مضاء بالنيون الباهر، تصدر كشكاً مكتظاً بالكتب تلتمع على بابه لافتة (مكتبة الأشرار) وتحتها بأحرف كبيرة ملونة، (رخصة كبيرة على الايديولوجيات تتجاوز الـ 50%، لا تفوتوا هذه الفرصة النادرة)، دخلت الكشك بعد أن تملكني حب اطلاع واخز، واستفسرت عن جلية الأمر، فقال لي صاحب الكشك وهو عجوز أصلع ترف عينه اليسرى بلا توقف: (الناس بحاجة إلى اختيار أسلوب في الحياة أكثر من حاجتهم إلى الملابس والأحذية، عندي مجموعة من الكتب المبسطة المختصرة تتضمن شرح ايديولوجيات لاتزال تسحر الناس وتحرجهم). اشتريت بعض الكتب، وأنا أتساءل بشيء من الدهشة والهلع: (حتى العقائد والايديولوجيات أصبحت سلعاً تخضع لتذبذبات السوق)..! ‏

-2- ‏
مؤلف كتاب (ايديولوجيات بأسعار زهيدة) مقاول نجح في ميدان الأعمال، وهو واثق على ما يبدو من نجاحه في ميدان الأفكار، وإذا كان بارعاً في قبض عمولته نقداً بعد كل عملية تجارية ناجحة، فهو مقتنع أن يقبض عمولته مؤجلاً، بعد الترويج لبضاعته الايديولوجية، وإقناع أكبر عدد من الناس بجدواها وبمردودها، يكتب في مقدمة كتابه: (لايزال الإنسان مغزواً بالهموم والآلام، يراوح مكانه فريسة للريبة والهلع، على الرغم من تكاثر السلع الايديولوجية المطروحة، المشكلة الكبرى أن عالم التنظير لا علاقة له بعالم الواقع، ومن هنا شعورنا جميعاً بأننا لقطاء، وبأننا بحاجة إلى تحديد نسبنا، والانتماء إلى أرومة شرعية) وينهي مقدمته بهذا الاعتراف: (قد ينصّب الإنسان المعاصر نفسه نبياً أو واعظاً وقد يلعن منبوذاً شقياً، ولكنه لا يستطيع أن يحلق فوق عصره، ولا أن يتجنب كوابيسه. ‏

إن الدراما الكونية المعاصرة قد فرضت على المثقف أن ينقلب من جامع نفايات إلى تاجر فضائح، بعد أن ألزمته إلى التسكع العقلي العابث، والتمسك بذبالة من نبالة في عالم تسوده النذالة). ‏

-3- ‏
البارحة، قصدت مكتبة (العاصفة) الغائصة في زقاق متفرع من السان جرمان دوبريه، مدفوعاً بحنين عتيق لتصفح (الكتب المارقة) التي تعودت أن أقتنيها، منذ عشرات السنين، فهالني (الانحطاط) الذي انحدرت إليه عناوين الكتب المعروضة، كانت صاحبة المكتبة، السيدة (ناتالي)، تروتسكية ناشطة، ولم تكن تقبل أن تعرض إلا الكتب «الثورية» التي تدعو إلى التفجير والتغيير، ولكن (ناتالي) قد توفاها الله، وتولت ابنتها (فلورانس) إدارة المكتبة. ‏

وتقول (فلورانس) وهي لا تخفي حزنها وخيبة أملها: (أوصتني أمي قبل وفاتها، أن أحافظ على هوية المكتبة، أن أبقيها منبراً للفكر الثوري، ولكن الزمان قد تغير، ووجدت نفسي مرغمة على تخصيص رفوف المكتبة للروايات البوليسية الأميركية، وللأدب الجنسي المكشوف، وللتحقيقات الفاضحة، وللطروحات المغرقة بالرجعية، والتعصب العنصري، أما كتب المثقفين الشباب الجدد، فإنها أكثر تخلفاً من كتب الكبار، وأفدح رجعية، لقد تصدر الساحة مثقفو (سوق البراغيث) ومجتمع الاستهلاك وسماسرة المافيا). ‏

-4- ‏
كان مثقفو فرنسا يحدثون الزلازل السياسية منذ عام 1789، وكانت الحرائق التي يشعلونها تنتقل إلى كل أوروبا بل إلى العالم. وحينما تفجرت الثورة الفرنسية هتف أحد سلاطين التحالف المقدس: (الرعاع يزحفون فإلى الخنادق)، ومازال جزء من أوروبا المحافظة يختبئ في الخنادق، خوفاً من (الطاعون الفرنسي)، ولكن الموقف انقلب رأساً على عقب، وبدا وكأن الإنسان الفرنسي العادي قد بدأ يقتنع بأن (الجنون الثوري) هو عمل مضر، وأن التمرد البروليتاري، سواء أكان سياسياً أم ثقافياً أم اجتماعياً. لم يعد مستعصياً على النجاح فحسب، وإنما هو مرادف (للنحس)، إن المعارك المحلية التي تطفو على السطح لم تعد (لائقة) بشعب متحضر بل (لعلها مدعاة للسخرية، لأنها لن تغير شيئاً في نهاية الأمر). ‏

السؤال المأساوي المطروح حالياً: (هل تحولت منابر الحرية والنزاهة التي كانت تصدح في فرنسا، طوال قرون إلى اسطبلات للعفن، والتلوث، والظلم)؟! ‏

-5- ‏
الأدبيات السياسية التي أفرزها العدوان الأميركي على العراق، تغرق في التهويمات، والمقارنات حتى أضحت –على ذمة روبرت فيسك- أقرب ما تكون إلى (الفانتازيا)، وإذا كان المسؤولون في قمة الهرم الحاكم في الولايات المتحدة يتحرجون من الإفصاح عن الخلفية الفكرية والأخلاقية التي تحركهم دبلوماسياً واستراتيجياً، مراعاة للباقة، وحفاظاً على ماء الوجه، فإن المشعوذين الذي يدورون في فلك ذلك الهرم لا يتورعون عن كشف ورقات التوت التي تستر عوراتهم الكهنوتية الشريرة، ولا يجدون أي ضرر في المجاهرة بها حتى ولو سببت لهم الشيء الكثير من الإحراج والإهانة، إن أهم ميزة للمجتمع الأميركي أنه (مجتمع بلا تاريخ)، وأن مقياس الوجاهة فيه هو للنجاح المادي، ولا قيمة للأصول والجذور، ومن هنا هذا التهجم على العراقة الحضارية، أو على التراث المتوارث عبر الأجيال. ‏

-6- ‏
قد يبدو هذا التخوف من البعد التاريخي لبلد من البلدان (مرضياً) يحتاج إلى سبر سريري، ولكن هذا التخوف يغلّف، بعض الأحيان، بأساطير خرافية، لا يمكن أن تصدر إلا عن الكهنوت (التلمودي)، ينسب إلى (هنري كيسنجر)، أنه قال ذات يوم: (مشكلة الشرق الأوسط أنه مكتظ بالتاريخ وقد تركت عليه الحضارات الغابرة شظاياها، ومن هنا هذا الاحتشاد بالطوائف والأثنيات والانتماءات، وفي قناعتي أنه ينبغي أن يتحرر هذا الجزء من العالم من أعباء التاريخ التي تسحقه وتمنعه من التطور). ولو كان (كيسنجر) صادقاً فيما قاله لوجدنا له بعض العذر في تطرفه، ولكن (كيسنجر) يراوغ بأنه يريد أن يلغي كل حضارات الشرق الأوسط، فيما عدا حضارة واحدة هي (الحضارة التلمودية)، وليس من المستغرب أن يأتي أنصاره فيما بعد، ليدمروا كل أثر من آثار الحضارات الشرق أوسطية، متذرعين بتحرير سكان المنطقة من ثقالتهم الحضارية الغابرة، وإلا تعذر عليهم التأقلم مع الحداثة والمعاصرة، وحتى (فوكو ياما) الذي تنبأ بنهاية التاريخ نصح بوقوف الإنسان المعاصر عارياً من أية كسوة تاريخية، وزعم أن الحداثة الحقيقية هي (طفولة بريئة لا تتأثر بسلاسل الماضي). ‏

-7- ‏
يصر أحد كبار كتاب هذا العصر، (أندريه جيد)، أن (الاكتئاب) ليس حالة شعورية تقتحم الإنسان، في حالات اليأس والقهر والفشل، وإنما هي (مهنة) لا تليق إلا بالمثقفين، ويبدو أن هذا القول هو (تشخيص سريري) لا يرفضه المحللون النفسيون الذين يصرون على (أن المثقف كائن كئيب، يوجعه ما يجري في العالم، ويحاول أن يعبر عن ألمه وعذابه، ولكنه لا ينجح إلا في إيذاء نفسه، لأنه يكتشف أن قدرته على الحركة محدودة)، لا عجب إذا تحدث (بول فاليري) عن (التعيس الذي يمتهن التفكير، ولكن لا قدرة له على الفعل..) بالإشارة إلى المثقف المعاصر. ‏

هل يعاني مثقفونا من الاكتئاب؟ الأحداث تتساقط على رؤوسهم فتجرحهم وتدميهم، وقد يغامرون بالشكوى، ولا ينزلون من صوامعهم، كسلاً أو مللاً أو خوفاً. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...