غسان الرفاعي: اختطاف في عيد الميلاد

14-12-2009

غسان الرفاعي: اختطاف في عيد الميلاد

أزور المكتبات قبل نهاية العام، وبدء العام الجديد، أتصفح الكتب الجديدة، بلهفة ووجد، كأنني أصافح فتيات طازجات، وقد يستعصي عليّ وصف مشاعر السعادة التي تغمرني، حين أقع على كتاب جديد لكاتب أتابع انتاجه بعناية زائدة. لفت نظري، وأنا غائص في مكتبة «الفناك» كتيب صغير، يحمل عنواناً غير مثير: «أقاصيص الأعياد للأدباء الشباب»، صادر عن دار النشر «ليبيو» وحينما بدأت أتصفح الكتيب، بعدم اكتراث، اكتشفت أن اسمي وارد في قائمة الأدباء الشباب المشاركين في الكتاب، وإلى جانبه عنوان أقصوصة ساذجة دافئة، كنت قد نشرتها في مجلة شبابية تسمى «افانتور ليتيرير» أي «المغامرات الأدبية»، حينما كنت أتابع دراستي الأكاديمية في جامعة جنيف في آخر الستينيات، وتروي الأقصوصة مغامرة حب غريبة وطائشة، بين صديق أميركي، كان يتابع دراسته، للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، وشابة سويسرية في غاية الرقة والشفافية، ولعل المشهد الذي حدث في ليلة عيد الميلاد، في منزلها المنمنم هو الذي أغرى دار النشر بضم الأقصوصة إلى قصص أخرى، تحت عنوان «أقاصيص الأعياد!».

تتحدث مقدمة الكتاب عن «السعادة كحلم طفولي يستحيل تحقيقه عند النضج» وعن «الألم كضرورة لاكتمال الشخصية وازدهارها»، وتتهجم على مجتمع الازدهار المعاصر لأنه يدعو إلى «الكسل وتجنب المجازفة» وحين التعرض لأسباب صدور الكتاب تبرز المقدمة ثلاثة أسباب مترابطة: الأول أن الفرح ضرورة على الرغم من استنقاعه بالأحزان والكوارث، والثاني، أن النشوة الحقيقية هي في مقاومة الغثاثة والرخص، ومحاربة التعالي، والثالث، أن المذكرات الشخصية هي السجل الحقيقي لمشاعر الإنسان وشفافيته، وتخلص المقدمة إلى النتيجة التالية: «الأعياد هي أكثر من مناسبة للتعبير عن أعماق الإنسان، وإن سن الشباب هو أكثر من اتون تحترق فيه الصبوات والتطلعات». ‏

قد لا تكون أقصوصة «العاشق البربري» أنموذجاً تتجلى فيه الأسباب الثلاثة الواردة في مقدمة الكتاب، ولكنها محاولة في تقديم صورة ميدانية، صادقة وشفافة، فيها حرارة الشباب المبكر وشيء من عبثه ونزقه، إن المجتمع العربي الذي يعاني من القهر والاستبداد والفجيعة قد يكون بحاجة إلى الفرح وأقاصيصه، أكثر من غيره، لا للتهرب من واقعه، وإنما للاستراحة بعض الشيء، ولعل هذا ما يدفعني إلى نشر هذه الأقصوصة، ونحن على أبواب الاحتفال بعيد الميلاد. ‏

ـ 1 ـ ‏

لي صديق أميركي يعرف كيف يقلب التراب إلى ذهب، ولكنه يعرف أيضاً كيف يقلب الذهب إلى ورق كلينكس، يتغيب عني شهراً أو نحوه، ثم يعود مدججاً بالثروة، وإذ ذاك يتصرف كروكفر: ينام في فنادق النجوم الخمس، يأكل في مطاعم النبلاء، ويستأجر فرقة موسيقية لتعزف له وحده في المقاهي، أما مهنته «السرية» فهي بيع الأناجيل الفاخرة إلى من تزعزع إيمانه، بالترهيب والترغيب، وأذكر أني شاهدته ذات مرة، وهو يصفق بيديه، في مقصف ارستقراطي، وحينما أسرع النادل ليكون في خدمته، طلب منه أن يرفع ساقه اليمنى، ليضعها على ساقه اليسرى، لأنه ـ كما زعم ـ »متعب« وحينما نفذ النادل طلبه، وهو لا يخفي دهشته وامتعاضه معاً، منحه مئة دولار، عداً ونقداً، وهو يقهقه كالمجنون، وكان صديقي، بعد أن يستهلك آخر دانق في جيبه، لا يجد غضاضة في أن يأكل قشر البرتقال، وأن ينام في مراحيض المقاهي، بعد أن ينفض عنها آخر الزبائن، وأن يتسول ثمن بطاقة المترو على الأرصفة، وقد يدخل مخزناً، ويسرق السلع الخفيفة، دون أن يشعر بالإثم، ولم يكن يهتم صديقي، واسمه »برت ترابيا« ـ وليغفر لي الإفصاح عن اسمه ـ بمظهره، إذ كان لا يحلق لحيته إلا مرة كل شهرين، ولا بملبسه، إذ كان يرتدي ما يشبه الأسمال، ولا بنظافته، إذ لم يكن يغتسل إلا نادراً، وعلى مضض، ولكنه كان نظيف الفكر، وطيب القلب، عنيداً كتيس جبلي. ‏

وكانت تتعلق به فتاة اسمها مارليز، قصيرة القامة، وطويلة اللسان، لها أنف دائم الاحمرار كشوندرة، وبطتا ساقين منتفختان كبالونين، ومؤخرة ضخمة تتدحرج وراءها كطنجرة بخارية، وكان لها بيت منمنم من طابقين في الضاحية، يشبه بيت الدمى: تنتثر فيه التماثيل الخزفية الصغيرة، والطيور المجففة، وجلود الحيوانات البرية، وصناديق السمك الزجاجية، وسلال من الزهر الاصطناعي، وتلال من الوسائد الملونة.. ولم يكن يسكنها إلا هاجس واحد هو حبها لبرت، وحرصها عليه، وخشيتها من أن يتركها. ‏

ـ 2 ـ ‏

أتتني مارليز، ذات مساء ماطر، وقد ازداد احمرار أنفها، وأعلمتني، وهي تتقافز من الفرح، أن برت قد عرض عليها الزواج، قالت بصوت متهدج: ‏

ـ «اسمعني، اسمعني، برت سيتزوجني، أمهلني أسبوعاً واحداً لترك عملي، والذهاب معه، هذا مدهش، رائع، وقد قدمت استقالتي، وأنا أستعد لمرافقته!». ‏

ـ «ولكن إلى أين؟»«. ‏

ـ «لا أدري، ما الأهمية إذا كنت معه؟!». ‏

ـ «ولكن مارليز... فكّري في الموضوع، لا تتسرعي!». ‏

ـ «ماذا تقول؟ أنت، أنت صديقه!». ‏

وأشفقت عليها وضممتها إلى صدري بحنان، وتمنيت لها السعادة. ‏

ولم أعلم أنهما تزوجا، وسافرا لقضاء شهر العسل إلا بعد أن تلقيت منها بطاقة من بودابست، جاء فيها: اعذرنا لعدم الاتصال بك قبل سفرنا، لفلفنا الأمور بسرعة وغادرنا، نحن على زورق صغير، وسنقطع نهر الدانوب من ينبوعه إلى مصبه! كم هو مثير ما نفعله! آه ما أجمل الأشجار، والماء والطيور!، وانغمست في العمل، والقراءة والكتابة، والأصدقاء، ونسيت العروسين السعيدين. ‏

ـ 3 ـ ‏

وفجأة تتصل بي مارليز، بعد قرابة الأسبوع، وتعلمني أنها ترغب في رؤيتي حالاً، قدرت أنها أنهت مغامرتها المثيرة على نهر الدانوب، وأنها عادت مع زوجها لإعادة ترتيب منزلها، بعد أن أصبحت ربة بيت، ولم يمض جزء من ساعة حتى كانت عندي: بادية الحزن، شاحبة اللون، وكأنها في مأتم. ‏

ـ «ماذا حدث؟ ولماذا أنت مضطربة؟». ‏

ـ «لم يمش الحال!». ‏

ـ «ماذا تعنين؟». ‏

ـ «أعطاني برت في الأيام الثلاثة الأولى كل ما تحلم به امرأة من حب وسعادة، ثم اكتشفت أنه ليس مؤهلاً للزواج، بكى على صدري وقال لي: إنه لا يليق بي ولا بكرمي، وإنه سيبقى شقياً حتى آخر أيامه، وانه يجب أن أعود إلى منزلي». ‏

كنت أتوقع شيئاً من هذا القبيل، ولكنني لم أجرؤ على مفاتحتها حتى لا أفسد عليها سعادتها.. على أي حال، لم أكن أنتظر أن تنتهي الأمور بمثل هذه السرعة. ‏

ـ «سأفتش عن عمل آخر، وسأحاول أن أبدأ من جديد». ‏

ـ «لا أشك في شجاعتك، ولا في قدراتك!». ‏

ـ 4 ـ ‏

واستطاعت مارليز أن ترمم الخلل في حياتها بسرعة حصلت على عمل جديد في شركة سياحية براتب أقل من راتبها السابق في المطار، ولكنه يغطي حاجاتها، وغيرت موكيت منزلها المنمنم، وأعادت طلاء جدرانه، وتعرفت على شاب، في مثل سنها، يعمل معها في الشركة، وتوثقت العلاقات بينهما وبدأا يتحدثان عن مستقبل واحد يجمعهما. حدثتني عنه فقالت: إنه على النقيض تماماً من برت: نظيف إلى درجة الوسوسة، دقيق في عمله ومواعيده، حيسوب ومنظم، سميته تظرفاً «الصيدلية المتحركة« فلم يغضب ولكنه نصحني أن أكون أكثر حذراً في تعاملي معه..» وفي المقابل، انقطعت أخبار برت، ولم نعرف شيئاً عن تحركاته. ‏

دعتني مارليز إلى قضاء سهرة عيد الميلاد في منزلها، وقالت لي بادية الانشراح: ‏

ـ «ستكون سهرة عائلية، على نحو ما، وستقتصر على سيمون وأخته وأنت، سأطهو الديك الرومي بالكستناء، وستتذوقون خمراً معتقاً، بالإضافة إلى قالب كاتو فاخر...». ‏

ـ 5 ـ ‏

أدهشتني التغيرات التي أجرتها مارليز على ديكور منزلها، والتزيينات التقليدية التي أقامتها بمناسبة عيد الميلاد: شجرة كبيرة تتدلى منها الدمى والأجراس، والفوانيس، وقصاصات الورق الملون، لوحات فنية جديدة تكاد تغطي جدران المنزل بكامله، ولكن ما أثارني أكثر هو الخطيب الجديد المسمى «الصيدلية المتحركة» وأخته الشقراء الجميلة، كان مكتمل الأناقة، صقيلاً، ومعطراً، يرتدي بزة سوداء، تزينها «بابيون» كبيرة، وكانت أخته، أكثر أناقة بثوبها الذي يكشف كتفيها وصدرها، وعقد الماس الذي يتدلى من عنقها. ‏

وبينما نحن نتبادل كلمات المجاملة والإطراء، ونستعد لاقتسام الديك الرومي سمعنا صرير الباب الخارجي، ووقع أقدام على الدرج الخشبي، حبسنا أنفاسنا، وأصابنا ما يشبه الذهول الممزوج بالخوف، وفجأة تلامح وجه برت، بلحيته الطويلة الشائكة وثيابه الرثة، وشعره المنفوش، نظر إلينا بارتياب، ثم هتف: ‏

ـ «مارليز، أين أنت؟». ‏

ومن حيث لا ندري، اندفعت مارليز نحوه، وارتمت على صدره، وأخذت تبكي، ومد ذراعيه القويتين وحملها، وكأنها عصفور صغير، وأدرنا ظهره لنا، وأخذ يهبط على الدرج الخشبي، وكأنه لم يرنا.. ولم يشعر بوجودنا، وسمعنا انصفاق الباب الخارجي، ثم ساد الصمت. ‏

ونظر إلي «الصيدلية المتحركة» وتمتم بصوت يكاد لا يسمع: ‏

ـ «من هو هذا البربري؟؟ وكيف دخل المنزل؟». ‏

قلت له، وقد عقدت الدهشة لساني: ‏

ـ «انه برت، ألا تعرفه؟». ‏

ـ «برت، ومن يكون؟». ‏

ـ «انه صديقي برت، وكفى!». ‏

واستطال وجهه، وخيل إلي أن حنكه قد سقط في حضنه، قام بنزق، وسحب أخته من ذراعها، وأخذا يهبطان الدرج، وهما يبربران بلغة غير مفهومة. ‏

وحينما التقيت بمارليز بعد أسبوع، كان أنفها أكثر احمراراً، وبطتا ساقيها أكثر تورماً، ووجهها أكثر طولاً، قالت لي وهي تشرق بالدمع: ‏

ـ «أتى البربري ليفسد علي حياتي مرة أخرى، قضى معي عدة أيام ثم غادرني.. لكنني أعرف أنني عاجزة عن مقاومته، كلما سمعت صوته وهو يناديني، مارليز، سأقفز إلى صدره، وأبكي على كتفيه، فسر لي، قل لي: هل أنا مجنونة؟». ‏

نظرت إليها، واحتضنتها بحنان، ولم أقل شيئاً.

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...