"ساتان أحمر" : الوقوف أمام المرآة على حافة الأربعين

30-01-2007

"ساتان أحمر" : الوقوف أمام المرآة على حافة الأربعين

الجمل ـ بشار إبراهيم :  نقطة ماء واحدة تكفي لتحطُّم عالم من الزجاج!..
ونحن المحكومون بكل هذا الضعف، الكامن في دواخلنا، لا ندري من أين، ومتى، وكيف، يمكن أن تنهمر هذه القطرة، فينهض الحطام؟.. كما لا نعرف بالضرورة كيف يمكن أن نلملم هذا الحطام الذي كنَّاه، من قبل، في أوقات سلام مزيف، ودعة متوهَّمة؟..
تخفي الملامح الكثير مما يمكن التعبير، وتواري النظرات الانفضاح أمام المرآة التي تلتمع في عيون الآخرين، وننزوي بعيداً في عوالم من الوحدة، والوحشة، والعزلة، بحثاً عن أمان نستجديه من براثن الانكشاف، والفضيحة، والعري الصاعق..
الأربعون!.. يا لهذا الرقم الخرافي، الصاعد من قلب الأسطورة، ومن عمق الواقع، يرجّ أركان النفس، ويوجعها، بمفردات لا تكاد تدرك ذاتها، إلا بالانغماس بالتجربة، والخلاص إلى نهاياتها، التي غالباً ما تكون فاجعة.
الأربعون!.. باب الوصول إلى حافة النهايات المؤلمة، حيث تذبل نضارات الحياة، وتخفت يفاعة الصبوات، وتبهت الألوان المُعشَّقة بزهو المشاعر، وتوقُّدها، ويبرد حريق اللمسات..
الأربعون!.. فاتحةُ التدحرج إلى «اليأس»، أم محطة الصعود إلى «النضج»؟.. الإنزواءُ في ظلال في «التعقُّل»، أم الجموح إلى «النزوات»؟..
أيُّ ريح تأتي متخفية في جلباب «الأربعين»، فتعصف بالسكينة، وتبني القلق؟.. وأيُّ زلزال يطيح بأركان ما انبنى طيلة عمر، وشوط تجربة؟..
ربما يبدو فيلم «ساتان أحمر» للمخرجة التونسية رجاء العماري، واحداً من أهم الأفلام العربية، التي حاولت الدخول إلى عالم المرأة، وهي تلج باب الأربعين، فتقع ما بين «سندان» الواقع الوقور، و«مطرقة» نداءات الذات، ولهفة الجسد للتمسك بشآبيب الحياة قبل أن تذوي، ويذوي!..
ها نحن أمام فيلم صاغته وأخرجته امرأة، وقامت بتمثيله وتمثُّله وبطولته امرأة.. فربما هذا مما يجعله بيان امرأة في مواجهة الذات، والواقع، والحياة.. بوح الأنا في أعلى صور جرأتها.. ومشاكسة المبدعة إذا تتجرأ على القول، أو الاعتراف!..
في «ساتان أحمر»، نحن أمام امرأة في أواسط الأربعينيات من عمرها. شعرها معقوص إلى الخلف.. ملامحها تخفي حزناً كامناً، وتُظهر حيادية باردة.. ولكن تحت السطح تمور انفعالات عارمة..
هاهي بهدوئها المعتاد. ترتِّب الستائر. تمسح زجاج النوافذ. وتزيح الغبار عن المناضد، والطاولات. تمرُّ الصور التذكارية، للزوج الذي مضى، ولطفلتها التي غدت شابة في العشرينيات من عمرها.
في لحظة شاردة، تناديها المرآة. تقف لوهلة أولى، تنظر في العينين الواقفتين على حافة الذبول، والملامح التي تتهيأ لانحفار التجاعيد على سفوحها.. يجيش فيها الأسى.. تفرد شعرها. وتكاد تنفلت من بين يديها لحظات مرح سريّة.. كأن تتمايل راقصة أمام المرآة، أو تُمسِّد بيديها الواهنتين على حواف الجسد.
الشابة التي كانت قبل عشرين عاماً، غدت «في الأربعين» امرأة وحيدة معزولة. تخيط ما تفتَّق من ثياب، أو تهيئ قطعة قماش جديدة، لتكون ثوباً يليق بابنتها الشابة.
كأنما هي الآن باتت إنساناً مؤجلاً.. لا سلوى لها سوى شاشة التلفزيون. تُحضِّر الطعام لمن غابوا في حضورهم، ولمن تفرَّقوا على تجمعهم، فلكل شؤونه وشجونه وحياته.. يمروُّن عليها، في رواحهم، وفي مجيئهم، يلقون التحيات المتكررة، والقبلات التي خلت من بهجتها.
هكذا.. كأنما هي حاضرة غائبة، موجودة ولا مرئية.. مرصودة كمسيح لحياة الآخرين.. فأين حياتها هي؟..
إلى الطاولة تجلس وحدها.. تأكل دون شهية.. تضحك لطرافات التلفزيون، وحتى لتفاهاته.. تلوب في المنزل.. من غرفة إلى أخرى منشغلة، أو متشاغلة.. نافذتها لا تطلُّ على حديقة.. مشاويرها جزء من واجباتها المنزلية.. غفواتها على الأريكة لانتظار ابنتها، عائدة من سهراتها مع الصديقات والأصدقاء..
قطرة واحدة.. كانت تكفي لانهيار هذا العالم الزجاجي الذي يتقلّى على نار البرد، والوحدة، والعزلة، والوحشة، وكآبات الجسد.
فيلم واحد يكفي.. امرأة واحدة تكفي.. صوت واحد يكفي.. للصراخ بوجوهنا: من يحمي المرأة من كل هذا الانكسار؟.. بل، من يلومها إن انطلقت في الشوارع لائبة، تبحث عن أناها قبل أن تضيع؟..
هل نتحدَّث عن تلك السن الحرجة.. «سن اليأس» وفق أكثر التعابير اتفاقاً على صعيد اللغة، وأكثرها اختلافاً على صعيد القراءة الطبية والنفسية، وربما أكثرها عسراً على صعيد الفهم، نفسياً واجتماعياً؟..
هي السن التي تنفتح على غابة من الأسئلة، والشكوك، والارتيابات.. على بحر من القلق، والتردد، والارتباكات..
من تراه يستطيع الانتباه إلى كل هذا الذي يعتمل وراء الوجوه التي تتلبَّس ملامح الوقار، فيسمع أنين الروح، وفحيح الجسد؟..
من تراه يرصد الاختلال العاطفي، والعطب النفسي، والإشكال الاجتماعي، والمشكل الطبي؟..
بل من تراه يستطيع أن يدفع «سن اليأس» بعيداً؟.. أو يؤجله.. إن كان قدراً؟..

 

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...