حنا مينه: ثقافة ما بعد الحداثة!

23-10-2010

حنا مينه: ثقافة ما بعد الحداثة!

تعريفات الثقافة غير محدودة، وبين قوسي هذه التعريفات، الواسع كمتاهة، يجعلنا السادة المنظرون نضيع ونحن نلهث وراء سرابه.

إنهم منظرو ما بعد الحداثة مولعون بالكتابة السرية، وحتى هذه يمكن تظهيرها بسائل ما، أما كتابتهم السرية فإنها لا تتظهر بكل السوائل المعروفة، وحتى الذين يكتبونها لا يستطيعون، غالباً فهمها ويعجزون بشكل مطلق تقريباً عن إيصالها إلينا فلماذا يكتبون؟ ولمن يكتبون؟ وفي حال انعدام أداة التوصيل بين المؤدي والمتلقي كيف يكون التعاطي بينهما؟ وفي وطن يعج بالقضايا الساخنة والهموم الراهنة، والأسئلة التي تبحث عن أجوبة ما نفع كتابة لا تقارب هذه القضايا والهموم، ولا تجيب عن أيّما سؤال ينبض له صدغ القارئ؟ ‏

لقد أخذنا بالحداثة، لأن فيها ما يفهم، وكل حديث بما هو جديد، مطلوب دائماً ومرغوب إلى حد رفع القبعات أمامه احتراماً، إلا أن الحداثة كنوع من التجريب في الكتابة، لا تصادر على غيرها حقها في أن تكون متداولة وأن تكون احد مصادر ما قبل الحداثة، ففي كل معلول علة، وكل أمر له سبب والشيء لا يخرج من لا شيء، وعلى هذه القاعدة المعترف بها فلسفياً حتى من عهد اليونان يمكننا القول إن الحداثة جاءت مما قبلها، وسنفترض ان ما قبلها هو الواقعية، فلماذا يحاول منظرو ما بعد الحداثة أن ينكروا الحداثة ويتنكروا للواقعية ويرفضوا ان الواقع كمصدر للعطاء منه كل عطاء؟ وبأي قدرة شيطانية يحسبون أن في وسعهم ان يذبحوا هذا الواقع لمجرد انه واقع، وانه أصل، ومصدر للإبداع؟ ‏

إنهم يرفضون الوضوح غير أن الوضوح ليس عيباً في ذاته، فنثر أبي حيان التوحيدي، كان واضحاً ومناظرات طه حسين، في كل ما كتب كانت واضحة وشعر نزار قباني صاحب اللغة الثالثة البسيطة والسهلة كان واضحاً ومن أجل هذا الوضوح خالياً من التبسيط كان نزار الأوسع انتشاراً بين شعراء هذا العصر، ومن أجل وضوحه، وكذلك إشراقه، كان نثر أبي حيان التوحيدي منهلاً ومدرسة للناثرين بعده، ومن أجل الوضوح في الفكر وعمق هذا الفكر وحداثته كان طه حسين وسيبقى، عميداً معتمداً للأدب العربي حتى في الألفية الثالثة التي نحن على عتبتها، وقد كتب نجيب محفوظ الرواية الواقعية، ذات المستوى الفني الأصيل فكان واضحاً في طرحه، واضحاً في فكره، واضحاً بدلالة الحدث أو الأحداث في كل رواياته، ولا استثني التجريبية منها وهذا كان شأن يوسف إدريس الذي يعد في القصة القصيرة تشيكوف العرب، وكذلك عبد الرحمن الشرقاوي وسهيل إدريس وسعيد حورانية وزكريا تامر وجمال الغيطاني ويوسف العقيد وفؤاد كنعان وإلياس خوري وغيرهم الكثير. ‏

يصرخون في وجوهنا، وقد استعاروا فروسيتهم من نخوة ملعونة، واشهروا سيوف المطاط الدبق «هذا وضوح، هذا ليس بأدب وهذا كلام عادي يتداوله العامة من الناس، وهذه إيديولوجيا وقد مضى إلى قاع النسيان عهد الايديولوجيا»! وكرغاء جمل هائج يعلو الزبد الأبيض على ملاغم أفواههم، قائلين بيقينية يشكون همّ أنفسهم فيها: «اقلعوا عن الكتابة توبوا عنها زمانكم ولّى هذا زماننا زمن الكتابة التي لا تتعاطى مع الحقائق لأنه ما من حقيقة ثابتة نسبية كانت أو غير نسبية!» وجوابنا على هؤلاء هو: الطريق واسع، فيه سبيل لكم وسبيل لنا ومن بدهيات الأشياء أن يكون ثمة جديد دائماً ومن بدهياتها أيضاً ان يكون فيها تجدد دائم أبداً ونحن لا نعق نثر أبي حيان التوحيدي إلا أننا نفترق عنه حسب افتراق الزمن، والوضوح الفني هو أدب من الأدب إذا لم نقل أنه كل أصالة الأدب ونحتكم في أمره إلى القرّاء، ونعلم علم اليقين أن القراء معنا بدليل اقبالهم علينا ودليل سعة انتشارنا بينهم فهؤلاء القراء يريدون، وهم على حق ان يفهموا ما يقرؤون ان يروا صورهم في هذا الذي يطالعون ان يتلمسوا قضاياهم، مشكلاتهم همومهم في الكلمات، وان يحسنوا الظن بأنفسهم لأنهم يفهمون حتى ما وراء هذه الكلمات ويسرهم جداً أن يكون الكلام عادياً متداولاً، مفهوماً، في القصص والروايات وقد دارت معركة في مطلع هذا القرن بين العقاد والرافعي والزيات، وبين كرم ملحم كرم ومارون عبود، حول هذه القضية بالذات: قضية كتابة القصة والرواية باللغة العادية المتداولة، وانتصر كرم عبود وغيرهم لأن القصة نتاج سلسلة ثقافية جديدة بعد انقطاع السلسلة الثقافية القديمة واندثر مرة والى الأبد أسلوب السجع والبلاغة والتقعر اللغوي ولم يفلح في زمننا هذا الذين رغبوا أن يكتبوا القصة او الرواية بلغة نحت الكلمات أو اللجوء إلى القواميس وما فيها من سقط الكلام اللغوي أو حاولوا تنميق العبارة، مثل «جفون تسحق الصور» أو «تفرقوا» شذر مذر» ولم يفلح أيضاً الذين استعانوا بالعبارات الجاهزة مثل «أكل الدهر عليه وشرب» أو«عاد بخفي حنين» وغير ذلك فالشخصيات القصصية والروائية لا تتكلم هذه المستحاثات اللغوية وترغب في ان تعبر عن نفسها بالكلام الذي يجعلها تنبض بالحياة وتحيا حياتها هي لاحياة إسلافها رغم أنها لا تعيب حياة هؤلاء الأسلاف وتحترمهم إلا أنها تتمايز عنهم في التعبير وهذا أجدى بالنسبة إليها، وأبقى في حفظ امثالها ومأثوراتها وأجدى في تجسيدها حية تسعى بين الناس. ‏

ولئن كان الانكفاء على النفس والشغل مقصورين على مكنوناتها وكان هذا الانكفاء مقبولاً والتلهي بلعبة الألفاظ في جلوة هذه المكنونات جائزاً عند غيرنا، في أوروبا وأميركا وبعض البلدان الأخرى فإنه غير مباح وغير مفيد وغير مجد عندنا، لأن الأخطار تحدق بنا والقضايا الوطنية والقومية والاجتماعية تقرع أبوابنا وفي معالجة قضية كالعولمة ووحدة التجارة العالمية واقتصاد السوق وخطر الشركات متعددة الجنسيات وغيرها كثير، يحتاج القارئ العربي منا إلى الفهم إلى الوضوح إلى وسيلة التوصيل بين المؤدي والمتلقي كي يكون هذا المتلقي قادراً على استيعاب ما نؤديه له نحن الكتاب ويكون المشاهد أو المتذوق قادراً أيضاً على ما يريد إيصاله إليه الفنان أو الموسيقي. ‏

وثمة خطر أكبر من هذا كله، هو خطر محو ذاكرتنا العربية وسلب هويتنا الاجتماعية والتاريخية ليسهل على الصهيونية العالمية عن طريق دولتها إسرائيل تهويد العقل العربي، وهذا هو بالذات ما تريده إسرائيل من التطبيع الذي تضعه شرطاً في مفاوضات السلام معها، وإذا كانت ثقافتنا العربية قوية حصينة وكانت ذاكرتنا الوطنية متينة منيعة فإن لدى إسرائيل ومن ورائها أميركا من القوة الاقتصادية ما يجعلها تمتلك مقومات كثيرة لغزو العقل العربي ومحاولة تهويده أي جعله ينسى مجزرة كفر قاسم قديماً ومجزرة قانا حديثاً فلا يتذكر سوى المحرقة اليهودية وكلنا يذكر ان جريدة تشرين السورية تعرضت لحملة ضارية من المسؤولين في أميركا والغرب والى الرد المقذع من أجهزة الإعلام الغربية لمجرد ان هذه الصحيفة العربية شككت في حقيقة «الهولوكوست» أي المحرقة اليهودية زمن النازية في الحرب العالمية الثانية. ‏

إننا لسنا ضد الحداثة ولسنا حتى ضد ما بعد الحداثة وكل ما نريده ألا يفرضوا علينا باسمهما أن نسلك طريق المعميات، وأن نأخذ بالكتابة السرية التي يأخذون بها، وإلا كنا خارج الإبداع هذا الذي يريدونه حكراً لهم وعليهم فقط لا غير!. ‏

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...